استبشر اللبنانيون خيرًا باجتماع بعبدا "الطارئ" الذي عُقِد السبت الماضي، بعد أشهرٍ طويلة على أزمة ​المحروقات​ المتفاقمة، وما انطوت عليه من "طوابير ذلّ" وإشكالاتٍ متنقّلة لا تنتهي، وبعد أيامٍ أكثر طولاً من استفحال الأزمة على خلفيّة قرار حاكم ​مصرف لبنان​ رياض سلامة ​رفع الدعم​ بالكامل و"تصدّي" الحكومة له عبر رفض تطبيقه.

خلُص الاجتماع إلى سلسلة قرارات "استثنائيّة"، أولها تطبيق سعر صرف جديد على المحروقات، بما لا "يكسر" رئيس الجمهورية وفريقه اللذين رفضا "رفع الدعم" بالكامل قبل إصدار ​البطاقة التمويلية​ الموعودة، ولا حاكم مصرف لبنان الذي لم يرضَ الاستمرار بسياسة "الدعم"، وما تنطوي عليه من مسّ بما تبقّى من احتياطيّ للودائع.

سريعًا، صُوّر الأمر على أنّه "إنجاز"، فخرج رئيس الجمهورية بكلمة مقتضبة يزفّ "البشرى" للبنانيين، التي أضيفت ربما لسجلّ "الانتصارات"، بعدما باءت كلّ محاولاته السابقة معالجة الأزمة بالفشل، نتيجة "القيود" التي وضعها الآخرون في وجهه، واعدًا في الكلمة نفسها بقرب ​تشكيل الحكومة​، بالتعاون بينه وبين رئيسها المكلّف نجيب ميقاتي.

لعلّ اللبنانيّين الذين ضاقوا ذرعًا، وهم يحاولون تأمين "فتات" البنزين لتأمين تنقّلاتهم الضروريّة لا أكثر، كانوا بانتظار أيّ قرار ينهي "الجمود"، الذي انعكس تلقائيًا "جنونًا" أمام محطات المحروقات الأسبوع الماضي، لكن هل يؤمّن فعلاً "إنجاز" اجتماع بعبدا هذا الحلّ، أم أنّه يشكّل مجرّد حلّ "ترقيعي" لا يغني ولا يسمن من جوع؟

الأرجح، وفق ما يقول الخبراء والمعنيّون، أنّ الاحتمال الثاني هو الغالب، على الرغم من أنّ أسعار المحروقات "قفزت"، وفق الجدول الرسميّ، أكثر من 66 في المئة دفعة واحدة بنتيجة مقرّرات الاجتماع الطارئ، مسجّلة بذلك ارتفاعًا حادًا قد يفوق قدرة معظم اللبنانيين، الذين لم يتمّ تأمين أيّ "بدائل" لهم تعينهم على تحمّل المشقّات والصعوبات.

فبموازاة هذا الجدول الرسميّ، تمّ خلال الساعات الماضية أيضًا "تسريب" جدول آخر، يخصّ الأسعار في السوق السوداء، قد يكون كافيًا لتظهير "عمق" المشكلة، بعدما أصبح "الفساد" من "عدّة الشغل" فيها، بحيث باتت هذه السوق الموازية "منظَمة"، ربما أكثر من السوق الرسميّة نفسها، التي سيطر عليها "الإرباك"، الذي عزّزته بيانات رسمية "ضاعت" بين السعرين القديم والجديد، تاركة الأمر ربما إلى "ضمائر" أصحاب المحطات.

بالنتيجة، فإنّ الواضح وفق ما يجزم المعنيّون، هو أنّ "مظاهر" الأزمة باقية على حالها من دون أيّ تعديل. "السوق السوداء" ستواصل انتعاشها، وبالتالي فإنّ "طوابير الذلّ" مستمرّة حتى إشعار آخر، ولا أمل بأيّ "انفراج" قريب على خطّها، ومثلها ستتواصل سياسات "التهريب" التي يعتقد كثيرون أنّها تتحمّل جانبًا أساسيًا من المسؤولية عن الوضع القائم.

من هنا، يشدّد المعنيّون على أنّ لا حلّ فعليًا للأزمة، أو ربما بداية حلّ، سوى بتحرير الأسعار بالكامل، ووقف تحكّم الدولة بالكميات المستورَدة، بما يتيح للمحطات وقف "إدارة" مخزونها بالطريقة الحاليّة، مع ما ينطوي على ذلك من "تقنين" لساعات العمل، لتعود بالنتيجة إلى سابق عهدها، من دون "إذلال" تعب منه المواطنون.

لكنّ هذا الحلّ، الذي يبدو "السيناريو الأخير" الذي سيأتي عاجلاً أم آجلاً، يخشاه كثيرون لأنّ من شأنه تأزيم الواقع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، خصوصًا أنّ ارتفاع الأسعار سينعكس تلقائيًا على معظم "الخدمات" في البلد، بما يفوق قدرة اللبنانيين على التحمّل، هم الذين يعانون أصلاً من "تضخّم" لم ينجحوا في التأقلم معه بعد.

ولذلك ربما، تصرّ الطبقة السياسية على "تفادي" هذا السيناريو، أو "تأجيله" بالحدّ الأدنى، وتعمد إلى "ربطه" ببعض الخطوات التي تأخّرت كثيرًا، كالبطاقة التمويلية الموعودة، والتي لا تزال رهينة "المماطلة والمراوحة" في البرلمان، بين الشروط والشروط المضادة، رغم أنّ كثيرين يعتبرون سلفًا أنّها لن تكون أكثر من "رشوة انتخابية" بلا قيمة.

ولعلّ ما تمّ تسريبه في الأيام الماضية عن "شروط" تمّ وضعها تحصر "المستفيدين" من هذه البطاقة بالحدّ الأدنى يزيد الطين بلّة، لأنّ الكثير من "الفقراء الجدُد" لن يكونوا معنيّين بها، رغم أنّ قدراتهم الشرائية تراجعت بشكل غير مسبوق، في حين "انهارت" إمكانية صمودهم في وجه كل الصعوبات والمعوّقات بكلّ ما للكلمة من معنى.

ويقول العارفون في هذا السياق إنّ المطلوب فعلاً تأمين "بدائل" للمواطنين تتيح لهم "التطبيع" مع ارتفاع الأسعار "الجنونيّ"، وبما يسمح بالانتقال من سياسة دعم السلعة إلى دعم المواطن، لكن شرط أن يكون دعمًا حقيقيًا وفعليًا، لا مجرّد حل ترقيعي آخر وفق العادة اللبنانية، وعلى طريقة "تفادي المشكل بالتي هي أحسن".

لذلك، فإنّ البطاقة التمويلية، بصيغتها الحاليّة وشكلها المتوقّع، قد لا تكون بدورها الغاية المنشودة، فالمطلوب تغيير "جذري" في الاستراتيجيات والمقاربات، بعيدًا عن كلّ ما اعتُمِد سابقًا، وأوصل البلاد إلى "المجهول" الذي تتخبّط خلفه اليوم، نتيجة سياسات اقتصادية متعاقبة لطالما اعتمدت الحلول الشعبويّة، أو بالحدّ الأدنى، السهلة.

في النتيجة، يبدو الأكيد أنّ أزمة المحروقات لم تُحَلّ، ولكنّها رُحّلت لشهر آخر، على الطريقة اللبنانية، شهر سيكون فيها على اللبنانيين ربما "التعايش" مع فصول جديدة من مشاهد الجنون والذلّ، أو "الثورة" على واقعهم بكلّ بساطة، ولو أنّ "اليأس والإحباط" يكاد بدوره يطيح بكلّ مقوّماتها، إن وُجدت!.