على الرغم من الوضعين المعيشي والحياتي الكارثيّين، لا يزال قسم من ​الشعب اللبناني​ يُلاحق الأخبار السياسيّة بشغف، ويُتابع أخبار السياسيّين. والنقاشات التي سيطرت على مواقع التواصل الإجتماعي بعد مواقف النائب ​سيزار معلوف​ وما تردّد عن خسارة "القوات" لنائب جديد من كتلتها بعد خسارتها النائب ​جان طالوزيان​، أكّدت هذا المنحى الذي كان حدث أيضًا عند إنسحاب أكثر من نائب من كتلة "لبنان القوي" برئاسة النائب ​جبران باسيل​. فهل فعلاً يهرب النوّاب من كتلهم عشيّة الإنتخابات، ضمن خطة مَدروسة من قبلهم للعودة إلى ​المجلس النيابي​ تحت إطار جديد، وهل سينسحب هذا المنحى على نوّاب آخرين؟.

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الجوّ العام في البلاد يُوحي وكأنّ الناس ستُعاقب النوّاب الحزبيين كلّهم، بسبب تردّي الأوضاع على مُختلف الصُعد، وتحميل جزء كبير من الشعب اللبناني المسؤوليّة للأحزاب والتيّارات التي حكمت لبنان، والتي كانت في السُلطة، خلال العُقود الثلاثة الأخيرة. وهذا الإنطباع الذي لا يُمكن معرفة مدى عُمقه إلا عند حُصول الإنتخابات، قد يكون وراء إختيار بعض النوّاب التغريد خارج سربهم، إنطلاقًا من أنّ ترشّحهم تحت رايات حزبيّة قد يُخسّرهم أصوات أكثر ممّا قد يُربحهم، والعكس صحيح، أي الترشّح كمُستقلّين أو تحت رايات "المُجتمع المدني" قد يُؤمّن لهم الأصوات المَطلوبة للفوز. لكن هذا الإنطباع غير واضح المعالم بعد، لأنّ الإنتخابات لا تزال بعيدة نسبيًا، ولأنّه من الصعب سحب صبغة السُلطة عن أيّ نائب يترك سفينته في الأمتار الأخيرة، مهما كانت تبريراته.

في كلّ الأحوال، إنّ ظاهرة إنسحاب بعض النوّاب من كتلهم ستبقى محصورة بعدد قليل منهم، لأنّ الأغلبيّة الساحقة من الكتل النيابيّة في المجلس الحالي هي كتل حزبيّة صلبة، بمعنى أنّ النوّاب الفائزين فيها جاؤوا بفضل تصويت أنصار حزبهم أو تيّارهم لهم، وليس لأنّهم يملكون قاعدة شعبيّة مُستقلّة وخاصة. وهذا الأمر ينطبق مثلاً على كتل نوّاب "​حزب الله​" و"​حركة أمل​" و"​الحزب التقدمي الإشتراكي​" و"تيّار المردة"، على سبيل المثال لا الحصر. وقد تكون كتلة "التيّار الوطني الحُرّ" هي الكتلة الأبرز التي رشّحت شخصيّات من خارج الإطار الحزبي الضيّق، وهي أيضًا الكتلة التي تلقّت نسبة الإنسحاب الأكبر، مع خروج أكثر من نائب منها، ولوّ لأسباب مُختلفة وتحت تبريرات مُختلفة، وهم: ميشال معوّض، ميشال ضاهر، نعمت إفرام، وإيلي الفرزلي، وحتى شامل روكز. وبعض هؤلاء النوّاب إكتفى بالإنسحاب من كتلته، فيما ذهب آخرون إلى حدّ الإستقالة من المجلس ككلّ.

وهنا من الضروري الإشارة إلى أنّ ما حدث مع كتلتي "التيّار الوطني الحُر" و"القوات اللبنانيّة" إنحصر بنوّاب من خارج الإطار الحزبي-كما أشرنا، أو فازوا بفعل القانون الحالي الذي يؤمّن وُصول بعض النوّاب في حال فازت الكتلة التي يترشّحون عليها بما يُعرف تقنيًا بإسم "كسر الحاصل الإنتخابي". وبالتالي، أغلبيّة هؤلاء النوّاب لم يكونوا مُرشّحين أساسيّين ضُمن اللائحة الإنتخابيّة التي ترشّحوا عليها، بل مُلحقين بها. وبعض هؤلاء يعلم جيّدًا أنّه لن يكون مدعومًا من الجهّة السياسيّة التي أمّنت وُصوله إلى المجلس في الإنتخابات المُقبلة، ما جعله يستبق الأمر بالإنسحاب طوعًا منها، مُراهنًا على أن تكون خُطوته مُقدّرة من قبل الرأي العام الناقم على كل الأحزاب والتيّارات السياسيّة.

وبالتالي، يُمكن القول إنّ ما حصل مع بعض الكتل لا يدلّ على تفكّك في هيكليّة هذا الحزب أو ذاك التيّار، بل هو مُجرّد خيارات شخصيّة لجأ إليها بعض النوّاب الذين كانوا على هامش هذه الكتل وليس في صلبها. ومعرفة حجم تراجع وتدهور وضع القوى السياسيّة المُنوّعة، بشكل فعلي ودقيق، يحتاج إلى دراسات وإلى إحصاءات مُختلفة عن مسألة إنسحاب نائب من هنا أو هناك، لأنّه لم يكن يومًا حزبيًا، أو لأنّه ليس على إستعداد لتلقّي الأوامر من رئيس الحزب أو التيّار، أو لأنّه يظنّ أنّ الناس ستستثنيه من غضبها خلال عمليّة التصويت المُقبلة، أو لأنّه بات مُدركًا أن لا مقعد له خلال الدورة الإنتخابيّة التالية ضُمن نفس اللوائح التي كانت قد أوصلته إلى الندوة البرلمانيّة، إلخ.

في الخلاصة، كلا، النوّاب لا ينسحبون من كتلهم ولا يهربون منها، وبعض الإستثناءات من هناك أو هناك، لا تعكس أيّ واقع يصلح للبناء عليه. لكنّ إحتفاظ النوّاب بولائهم السياسي والحزبي، لا يعني بالضرورة أنّ المُناصرين ما زالوا أيضًا على ولائهم، حيث أنّ الأمور رهن بالتطوّرات التي ستحصل خلال الأشهر المُقبلة، والتي ستعطي فكرة عن التوجّه العام للناخبين. وللبحث تتمّة...