طالما كان مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغينيو بريجنسكي، يؤكد أنّ من يسيطر على أوراسيا، أيّ آسيا الوسطى يسيطر على العالم… لكنه كان يقول ويشدّد في الوقت نفسه، انّ الولايات المتحدة لا تستطيع أن تفرض هيمنتها على العالم حتى وإنْ سيطرت على أوراسيا، لأنّ الهيمنة سوف تستفز الدول الكبرى، مثل روسيا والصين، التي تعارض هذه الهيمنة، وتدفعها الى التكتل ضدّ الولايات المتحدة، لإسقاط هيمنتها.. لهذا نصح بريجنسكي قادة بلاده بالعمل على انتهاج سياسة تضمن لأميركا قيادة العالم من خلال مراعاة مصالح الدول الكبرى.. لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تأخذ بنصيحة بريجنسكي، وعمدت بدءاً من إدارة جورج بوش الابن إلى شن الحروب تحت عنوان محاربة الإرهاب، لأجل السيطرة على المناطق الهامة والحساسة في العالم، التي تحتوي على أكبر احتياطات النفط والغاز، إنْ كان في دول آسيا الوسطى وبحر قزوين، من خلال احتلال أفغانستان التي تتوسط هذه المنطقة، أو كان عبر السيطرة على العراق الذي يعوم على كميات هائلة من النفط…

لكن خطة أميركا باستخدام القوة العسكرية للسيطرة على موارد الطاقة والتحكم بإمدادات النفط والغاز شريان الاقتصاد العالمي… لم تنجح، حيث تحوّل الغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق إلى نقمة بدلاً من أن يكون نعمة للولايات المتحدة، التي غرقت قواتها في وحول أفغانستان والعراق، مما استنزف موارد الإمبراطورية الأميركية وأرهق اقتصادها وأغرقها بالمزيد من المديونية الأكبر في العالم وجعلها غير قادرة على مواصلة تحمّلها، فكان أن اضطرت إلى البحث عن سبل الخروج من أتون هذا الاستنزاف، وبالتالي الانسحاب والتسليم بالفشل والهزيمة…

لكن بقدر ما كانت أحلام وتطلعات وطموحات واشنطن من وراء غزو أفغانستان والعراق كبيرة وتستهدف تربّع أميركا على عرش العالم وحسم هيمنتها الأحادية دون أيّ منازع لها، بقدر ما ان الفشل والإخفاق في تحقيق ذلك سيكون له تداعيات سلبية معاكسة، تسرع في إسدال الستار على مرحلة الهيمنة الأميركية الأحادية لمصلحة بدء دخول العالم زمن التعددية القطبية الدولية والإقليمية، وتدشين مرحلة أفول زمن الإمبراطورية الأميركية، التي غامر حكامها في رهانهم على إخضاع العالم، بدلا من قيادته على نحو يراعي مصالح الدول الكبرى، فإذا بهم يخسرون الاثنين معا.. فلا حافظت أميركا على دورها القيادي، ولا هي نجحت في فرض سيطرتها وهيمنتها… ومن الطبيعي والحال هذه ان يؤدي الفشل الأميركي والهروب المذل من أفغانستان إلى تسريع الرحيل الأميركي عن العراق سورية لأنّ البديل عن الرحيل غرق القوات الأميركية في حرب استنزاف تشنّها ضدّها المقاومة الوطنية في كل من البلدين، وعندها سيكون قرار الرحيل تحت ضربات المقاومة، من دون حتى حفظ ماء الوجه.

على أنّ رحيل القوات الأميركية عن أفغانستان ومن ثم العراق وسورية ستكون له تداعيات سلبية كبيرة على النفوذ الأميركي في المنطقة والعالم، وعلى الأنظمة التابعة لها، يمكن إجمالها على النحو التالي:

اولا، إضعاف الدور الأميركي في التأثير على مجرى السياسات في المنطقة والعالم.. حيث أن قدرة أميركا على فرض مشيئتها وسلطانها سوف تنخفض، بنسبة تراجع حضورها العسكري في مقابل تزايد قوة وتأثير وحضور الدول والقوى التي ترفض سياساتها الاستعمارية.. وسيؤدي ذلك بالضرورة إلى تعزيز موقف دول وقوى التحرر في المنطقة والعالم، إنْ كانت تكافح لتحصين استقلالها الوطني، أو تناضل للتحرّر من الاحتلال والاستعمار.. أو تعمل لأجل إعادة صياغة النظام العالمي على أسس التعددية والتشاركية.

ثانياً، اختلال توازن القوى في المنطقة لمصلحة دول وقوى المقاومة، على حساب الدول والقوى التي تستمدّ قوّتها من قوة وحضور الولايات المتحدة.

ثالثاً، تراجع قوة الكيان الصهيوني الذي استند في تصعيد عدوانه وإرهابه في العقود الأخيرة إلى ازدياد الحضور العسكري الأميركي في المنطقة بعد احتلال العراق وافغانستان وأجزاء من شمال وشرق سورية.. لا سيما أنّ الانسحاب الأميركي المحتوم، من سورية والعراق، سوف يعطي دفعاً قوياً للمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، ويؤدي إلى نشوء بيئة جديدة لمصلحة قوى المقاومة تحاصر كيان الاحتلال لأول مرة منذ اغتصاب فلسطين عام 1948..

رابعاً، ستكون الولايات المتحدة مجبرة على البحث عن تسويات للصراعات في المنطقة للحد من آثار وتداعيات تراجع نفوذها على الكيان الصهيوني والأنظمة والقوى التابعة لها، إنْ في اليمن أو لبنان.. أو على صعيد الصراع العربي الصهيوني من خلال إحياء حلّ الدولتين إلخ… بما يضمن حماية أمن ووجود الكيان وهذه الأنظمة والقوى واستطراداً ضمان استمرار ما تبقى من النفوذ الأميركي من خلال الكيان الصهيوني والأنظمة والقوى التابعة للولايات المتحدة.. ولهذا من الطبيعي ان يسود الإحساس بالقلق في دوائر صنع القرار في تل أبيب وبعض العواصم العربية الموالية لواشنطن، بعد مشاهدتهم الانسحاب الأميركي المذلّ من أفغانستان…