ليس من الغريب ان نسمع من المسؤولين اللبنانيين الكلام المعسول عن حلول قريبة ومرتقبة، وعن ان تشكيل الحكومة هو المخرج لكل الازمات التي عانى منها اللبنانيون في السنتين الماضيتين، وسيعانون منها الى ان تتألف الحكومة وتنهي الازمات ونعيش مرحلة الخلاص. ولكن، ما لم نسمعه ولن نسمعه من المسؤولين اللبنانيين، قاله رئيس بعثة الاتحاد الاوروبي في لبنان السفير رالف طراف الذي كان واقعياً ومنطقياً لجهة تشديده على وجب الاسراع في تشكيل الحكومة من جهة، ولكن على انها ليست الحل المنتظر للمشاكل، من جهة ثانية. لا بل ما قاله طراف اهم من ذلك بكثير، لانه اكد ان الحكومة ليست سوى الخطوة الاولى على طرق الحل الطويل، الذي سيشمل حكماً ومن دون مواربة او شك، اتخاذ تدابير قاسية جداً وغير شعبية ولن تؤدي الى تحسين ظروف معيشة اللبنانيين، لكنها ستكون على طريق الانقاذ المنتظر.

ما اراد طراف ايصاله الى المسؤولين، هو ان هامش المناورات المحلي لتشكيل الحكومة بدأ يضيق، وعليه فإن ابصار حكومة جديدة النور من المفترض الا يأخذ وقتاً طويلاً، وهو امر مشجع الى حد ما لكنه لا يصب في خانة المسؤولين الذين يصارعون ويقاتلون حتى الرمق الاخير لكسب بعض النقاط وتسجيل تقدم طفيف من هنا او هناك، يعطيهم افضلية نفوذ على غيرهم من اللاعبين، ويضعهم في موقف اكثر راحة قبيل اجراء الانتخابات النيابية.

اما ما اراد ايصاله الى المواطنين، فهو اكثر اهمية، ومفاده الا يعلّقوا الآمال على الحكومة فور تشكيلها واعتبارها طريقاً مباشراً الى الخلاص، بل هي مجرد جسر عبور ضروري، ولكن طريق الالف ميل لن يزول، ولن تكفي خطوة واحدة لقطع المسافة، بل عليهم ان يسيروا خطوات متعبة وكثيرة، وان يدفعوا ثمن ما اقترفته ايديهم في الانتخابات، والتفكير بأن الطريق سيكون اطول اذا ما اعادوا اقتراف الخطيئة نفسها في الانتخابات المقبلة التي يجمع العالم على وجوب اجرائها في موعدها. اما الرسالة المبطّنة التي حملها طراف، فهي انه على اللبنانيين ان يبدأوا على اعتياد نمط حياة جديد، وان الدول الخارجية هي التي ستتولى تنظيم طريقة حياتهم العملية (غير السياسية والامنية بطبيعة الحال) بل الاقتصادية والمالية، وهو ما يمكن اعتباره سلاحاً ذو حدين، لانه من جهة سيكون اكثر تنظيماً ووضوحاً، ومن جهة ثانية سيكون متحكماً بمسار الامور ويفرض تدابير قاسية لم يعتد اللبنانيون عليها وقد تمت لاكثر من سنتين، حتى تبدأ مرحلة التأقلم معها.

من الواضح ان اللبنانيين باتوا امام واقع لا مفر منه، وهو انه سيتوجب عليهم تغيير نم حياتهم وطريقة رؤيتهم للامور، والنظر الى المراحل المقبلة بمنظار مختلف، والاقتناع اخيراً بأن المسؤولين (التي ارتضت الغالبية الساحقة من اللبنانيين ان تسير خلفهم من دن تفكير وتسليم ذاتها اليهم)، لم تنفعهم ولم تنقذهم، لا بل استغلتهم وسلّمتهم من دون تردد الى الصناديق والجهات والمنظات المالية الدولية، وكأنها المكافأة المنتظرة على جهود هذه الغالبية ودفاعها الاعمى عن هؤلاء المسؤولين.

وعليه، فإن العبرة ليست في تأليف الحكومة او عدم تأليفها، بل في وجوب الاسراع في تشكيلها اولاً، والتحضير لمرحلة مغايرة تماماً لما عاشه اللبنانيون على مدى عقود من الزمن من "استقلالية" مالية واقتصادية (وللسخرية فإن ذلك تم بموافقة وتأييد وطلب الدول الخارجية نفسها التي انقلبت اليوم على هذا المفهوم)، عسى ان يشمل هذا التغيير في النظرة والمقاربة، الرؤية السياسية للبنانيين واستيقاظهم من سبات الطائفية والتبعية العميق الذي غرقوا فيه على مدى عقود طويلة من الزمن.