كُلُّ حادِثةٍ نقرأُها في الإنجيلِ لها إطارُها التّاريخيّ أي زمانُ الحادثةِ ومكانُها، وبِالمُقابِل لها بُعدُها الرُّوحيّ والتّعليميّ الّذي يتخَطّى زَمنًا مٌحدَّدًا أو حتَّى بِيئَةً مُعيَّنة، ويُشكِّلُ بِالتّالي عِبرةً لِكُلِّ الأجيال.

هذا الأحدُ هُوَ تَذكارُ قَطعِ رأسِ القِدّيسِ يُوحنَّا المَعمدان، الصَّابِغِ والسَّابِقِ للمَسيح، ويُخبِرُنا الإنجيلُ فيهِ كيفَ أنَّ الحاكِمَ "هيرودسَ أنتيباس" أَمَرَ بِقَطعِ رأسِ القِدّيسِ، تَلبِيةً لِرَغبَةِ "سالومي"، إبنةِ هيروديّا، زَوجَتِه الثّانية، بعدَ أن رَقَصَتْ له، وكان قد وَعَدَها بأن يُحَقِّقَ لها كُلَّ ما تَطلُبُه منه(مرقس ١٤:١٦-٣٠).

الأشخاصُ في هذهِ الحادِثَةِ أربَعة: هيرودس، وهيروديّا زوجتُه، التي كانت قبلًا زوجةَ أخيه فيلبس (وكان هيرودس في صراعٍ دائمٍ معه)، وسالومة ابنة هيروديّا، والقدّيس يوحنا.

اللافتُ أنَّ الثّلاثَةَ الأُوَلَ المذكورين، بالرُّغم من تنوُّعِ مَصالِحِهم، إجتَمَعوا كُلُّهم على المَعمَدان لِيَتخلَّصُوا مِنه.

يقولُ الإنجيلُ إنّ "هِيرُودُسَ كَانَ يَهَابُ يُوحَنَّا عَالِمًا أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ"، ومع ذلك اعتَقَلَه وسَجَنَهُ، ومن ثَمَّ وافَقَ على قتلِه. هل سَجَنَهُ في البدايةِ مِن أجل هيروديّا، وعادَ وقَتَلَه تَحقِيقًا لِوَعدِهِ لسالومي فقط، أم هُناكَ أمرٌ أبعدُ مِن ذلك بِكَثير؟.

في الحَقيقَةِ لقد ساوَمَ هِيرُودُسُ على الحَقّ. وهنا تَكمُنُ خَطيئتُه الكُبرى، هو عَرَفَ الحقَّ ولم يكتَفِ بأن أدارَ له ظهرَه، لا بَل طَعَنَهُ في الصَّميم، وأرادَ التخلُّصَ مِنهُ مِن أجل مَصلحتِهِ الشَّخصيَّةِ ونَزواتِه.

فكَم مِن شَخصٍ عَرَفَ الحَقَّ ونَكَرَه؟ وكم مِن حاكِمٍ مَسؤولٍ فَعل كَما فعلَ هيرودُسُ؟

نَحن نُصلّي في القُدّاسِ الإلهيّ مِن أجلِ الحُكّامِ والرّؤَساءِ والمَسؤولينَ لِيَكونَ حُكمُهُم عادِلًا، ويعيشَ الشَّعبُ بِسلامٍ في ظِلِّ حُكمِهِم، وليس لكي يستَبِدُّوا ويظلِموا ويَقتُلوا شَعبَهم. والصَّلاةُ التي نَرفَعُها إلى الرَّبّ مِن أجلِ الحُكّامِ، تأتي بعدَ الاستِحالَةِ مُباشَرَة، أي بعد أن يكونَ القربانُ والنَّبيذُ قد تحوَّلا بِحُلولِ الرُّوحِ القُدُسِ إلى جَسدِ الرَّبِّ ودَمِهِ الكَريمَين، فنقول:" نُقَرّبُ لكَ هذه العِبادَةَ النَّاطِقةَ مِن أجلِ المَسكونَةِ، وكنيستِكَ، ... ومِن أجل حُكّامِنا. أعطِهم يا ربُّ أن يَكونَ عهدُهُم سلامِيًّا، فنقضي نحن أيضًا، في ظِلِّ أمنِهِم حياةً هَادِئةً مُطمَئنّة في عِبادَةٍ حَسَنةٍ ووَقار".

ترتيبُ هذهِ الصَّلاةِ في القُدّاسِ الإلهيّ، يُعبِّرُ عن مدى أهميَّةِ دَورِ المَسؤولينَ تُجاهَ الشَّعبِ وتُجاهَ اللهِ في آنٍ واحِدٍ، وهذا ما أكّدَ عليهِ بُولُسُ الرَّسولُ بِقَولِه: الحاكِمُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ. (رومية ٤:١٣)

وبِالعَودَةِ إلى هِيرودُسَ، كان يُريدُ كتمَ كُلِّ صَوتٍ يُعارِضُهُ أو يَفضَحُه، إذ كان القِدّيسُ يوحنّا يُوَبِّخُ هيرودُسَ لِمُخالَفَتِهِ الشَّريعَةَ بِالزَّواجِ مِن زَوجَةِ أخيه، بينما أخوه مَا زالَ على قَيدِ الحَياة. فما كان مِن هِيرودُسَ إلّا أن أحضَرَهُ مُكبَّلًا إلى قَصرِهِ المُطِلِّ على البَحرِ المَيتِ وسجَنَهُ هُناك.

معَ العِلمِ أنَّ هِيرودُسَ لم يَكُن يَهودِيًّا في الأساسِ بل من نَسلٍ أدومي وسامريّ. والأدوميّون شعبٌ أرغمَهُم رئيسُ كهنةِ إسرائيلَ الحَشموني سمعانُ المَكابيّ، على الختانِ في حوالي العام ١٢٥ قبل الميلاد، لكنّ هيرودُسَ كان يُريدُ دائِمًا المُحافظةَ على صُورَتِه، واستِمالَةَ الشَّعبِ اليَهوديّ لِصالِحِه. لذا شكَّلَ له القِدّيسُ يُوحنّا الإزعاجَ الكَبير، وفَضيحَةَ ما أراد كِتمانَه.

كانت خَطيئةُ هِيرودُسَ ثُلاثِيَّةً: أوَّلاً، فضّلَ الباطِلَ على الحَقّ، وثانيًا، خافَ على كُرسيِّهِ الزَّمنيّ، ولم يأبَهْ بِمَكانِهِ الأبَديّ مَعَ الله، وثالثًا، أَصبَحَ مُجرِمًا وقاتِلًا، عندما قدَّم رأسَ نبيّ اللهِ على طَبقٍ لسالومي، ولم يَعِ بِذَلكَ أنَّهُ قتَلَ نفسَهُ إذ أصبَحَ عَبدًا لِمَلذَّاتِهِ الشِّريرة، فأصبحَ بِالتَّالي أداةً بِيَدِ الشّيطان.

ولا تَقِلُّ ثُلاثِيَّةُ إجرامِ هِيروديّا عن هِيرودُسَ شرًّا، فهيَ المُحَرِّضَةُ التي كانت تُريدُ إسكاتَ صَوتِ اللهِ، وهي الزَّوجَةُ الزَّانِيَةُ، والأُمُّ السّيئةُ والقاتِلة. فكيفَ لها أن تَجعَلَ مِنِ ابنَتِها مُجرِمَةً، وتُعَلِّمَها الإباحِيَّةَ الرَّخيصَة؟.

أمَا بِالنِّسبةِ لسالومي، فكان يُمكِنُها أن تَرفُضَ، إلّا أنَّ خَطيئَتَها كانت أيضًا ثُلاثِيَّةً وهي: استِغلالُ أُنوثَتِها للشَّر، بدءُ مسيرةِ حياتِها بِالسُّوء، وبيعُ شَرَفِها.

بِمُقابِلِ كُلِّ ذَلِكَ كان مَجدُ القِدّيسِ يُوحنَّا ثُلاثيًّا قُدّوسًا لامِعًا ومُشرِقًا: أوّلًا، كان يَعيشُ ما يُبَشِّرُ بِهِ، أي كانَ صادِقًا مَعَ نفسِهِ، وثانيًا، رَفَضَ المُساوَمَةَ على الحَقِّ مَهما كانَ الثَّمنُ غاليًا، وثَالثًا، استُشهِدَ قِدّيسًا.

وهُنا يَتَجلَّى البُعدُ اللاهُوتيُّ لِهَذِهِ الحَادِثَة.

فهيرودُسُ اعتَبَرَ نفسَهُ حَذِقًا بِألاعيبِهِ وأكاذيبِهِ وإجرامِهِ، وكان أيضًا يُريدُ قتلَ يَسوعَ، فقالَ الرَّبُّ عنه للفَرّيسيّينَ الّذين هدَّدوهُ بِهِ، وأرادُوا طَردَ الرَّبِّ مِن مِنطقَتِهم "امْضُوا وَقُولُوا لِهذَا الثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي الْيَوْمَ وَغَدًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أُكَمَّلُ"(لوقا ٣٢:١٣).

وهذا مَعناهُ: لا أحَدَ يَستَطيعُ أن يَقِفَ في وَجهِ الحَقِّ الّذي هُوَ المَسيح. وأنَّ نِهايَةَ مَن يَعمَلِ الشَّرَّ هي الهَلاك.

وهكذا كانَ، هِيرودُسُ دَفعَ ثَمنَ أفعالِهِ بَاهِظًا. فطلاقُهُ أدخَلَهُ في حَربٍ خاسِرَةٍ ومُدَمِّرةٍ معَ والِدِ زَوجتِهِ الأُولى مَلِكِ نبطيّة، كما أنَّ جَشَعَهُ أوصلَه إلى أن يَموتَ مَرذُولًا معَ هِيروديّا، إذ أُتُّهِمَ بِمؤامَرَةٍ ضِدَّ الإمبراطور كاليغولا الذي نفاهُما بَعيدًا، وكان ذلك بِتَحريضٍ مِن ابن اختِه.

إنَّ الشَّرَّ يُعمِي القلبَ، فَهيرودسُ انتيباس، لم يتَّعِظْ مِن والِدِه هِيرودُسَ الكَبيرِ، الّذي أكلَهُ الدُّودُ وهُوَ حيٌّ، لأنَّهُ كان مُجرِمًا كبيرًا.

أمَّا القِدّيسُ يُوحنَّا المَعمدان، فَنالَ إكليلَ الشَّهادَةِ والظَّفر، ويَتنَعَّمُ أبَدِيًّا في مَلَكُوتِ السَّموات، وها أيقونتُهُ ثابِتَةٌ على الايقونسطاس مُلاصِقةً لأيقُونَةِ السيِّدِ، كما له سِتّةُ أعيادٍ على مَدارِ السَّنَةِ الليتُورجِيّة.

خلاصة

كثيرون مِنَ الحُكَماءِ طَبَّقُوا قَولَNicolas Machiavel ماكيافل: "يُمكِنُ للأُمراءِ -الحُكّامِ والمَسؤولينَ- أن يُبرِّرُوا استِخدامَ وسائِلَ غيرِ أخلاقِيَّةٍ لِتَحقيقِ مَجدِهِم وبَقائِهم".

حقًا، إنَّ الحاكِمَ، مهما علا شأنُهُ ومَكانتُه، يكونُ غبيًّا إن اعتَقَدَ أنَّ السُّلطانَ الأرضِيَّ باقٍ. وكُلُّ مَسؤولٍ يَظُنُّ أنَّ سُلطَتَهُ لا حُدُودَ لها، وهو قادِرٌ أن يفعلَ ما يَشاءَ وما مِن رقيب، يكونُ غبيًّا. هذا مُنتهى الجَهلِ ونابِعٌ مِنَ الكِبرياءِ وتَألِيهِ الذَّات.

يَقولُ سِفرُ الأمثالِ في ذلك "الحِكَمُ عَالِيَةٌ عَنِ الأَحْمَقِ"(أم ٧:٢٤)، والمَقصُودُ طبعًا، حِكمةُ اللهِ التي لا يتلقَّفُها مَن يِفتَكِرُ بِالشَّر، ويَكونُ أحمقَ لأنَّ نِهايتَهُ هلاكٌ لا محالة، وحِسابَهُ عَسير. ويتابِعُ هذا السِّفرُ فيَقُول: "اَلْمُتَفَكِّرُ فِي عَمَلِ الشَّرِّ يُدْعَى مُفْسِدًا"، والمُفسِدُ إن لم يَتُبْ ويُصلِحْ ما أفسَدَهُ، يُدَمِّرُ نفسَهُ بِنَفسِه ويُدمِّرُ كُلَّ ما حولَه.

فيا رَبُّ نجِّنا.