يصرّ المحقّق العدليّ في جريمة انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار على "تحدّي" كلّ المعوّقات والصعوبات، والعبور فوق "الألغام" التي تُزرَع في طريقه، والمضيّ بالتحقيقات حتى النهاية، كاسرًا كلّ "المحظورات" والخطوط الحمراء، رغم التهديدات التي يتلقّاها بمصير مشابه لـ"سلفه" القاضي فادي صوان، الذي تمّت "تنحيته" عن التحقيق.

لعلّ "بطاقة الإحضار" التي أصدرها القاضي البيطار في حقّ رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب تندرج في هذا السياق، لا سيّما أنّها أتت بعد رفض الأخير "المثول" أمامه، بعد استدعائه في ملف انفجار المرفأ، بدعوى وجود "موانع دستوريّة"، تقوم على أنّ المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء هو المرجع الصالح للتحقيق معه.

أراد القاضي البيطار من خلال هذه الخطوة، التي شكّلت "سابقة" من نوعها في لبنان، أن يسجّل موقفًا واضحًا ضدّ "مهزلة" رفض المثول أمامه، فهو منذ ادّعائه على شخصيات سياسيّة وأمنيّة لم يحقّق أيّ خطوة تُذكَر، لأنّ أحدًا لم يمنحه "الإذن" الذي طلبه، فيما "يتقاعس" البرلمان عن عقد جلسة للتصويت على "رفع الحصانات" عن النواب الذين استدعاهم.

وبمُعزَلٍ عن مدى "قابليّة" مذكرة الإحضار التي أصدرها للتطبيق، مع "شكوك" بدأت بالظهور سريعًا، يبدو القاضي البيطار من خلف هذه الخطوة، وكأنّه يخاطب الرأي العام الذي لا ينفكّ يضغط عليه ويطالبه بالمضيّ في التحقيقات، عبر القول بأنّه لا يستنفد "وسيلة" لتحقيق ذلك دون اعتمادها، لكنّ القوى السياسية اتفقت على ما يبدو على "عرقلة" عمله.

مثل هذا الاتفاق قد لا يكون بعيدًا عن الواقع، إذ إنّ القوى التي "أطاحت" سابقًا بالقاضي صوان، عادت لتتّحِد اليوم ضدّ القاضي البيطار، واتهامه بـ"تسييس" التحقيق. وإذا كان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله أول من "بادر" على هذا الخط، فإنّ رؤساء الحكومات السابقين، وهم المصنَّفون "خصومًا" للحزب، انضمّوا إليه، مصدّقين على هذا الاتهام.

يُقرَأ ذلك بوضوح خلف بيان رؤساء الحكومات السابقين الذي صدر بعيد الإعلان عن "بطاقة الإحضار" بحق دياب، والتي اعتبروها "سابقة خطيرة وإجراء غير بريء"، بل ذهبوا لحدّ وضعها في سياق ما وصفوها بأنّها "محاولات لم تتوقف من سنوات للانقلاب على اتفاق الطائف وكسر هيبة رئاسة الحكومة وتطويق مكانتها في النظام السياسي".

في بيانهم، تحدّث رؤساء الحكومات السابقون كذلك عن "إهانة علنية لموقع رئاسة الحكومة، واستضعافًا مرفوضًا لرئيس الحكومة المستقيل"، قبل أن يدخلوا في متاهات "التسييس" الذي اتهموا به المحقق العدلي، ليستنتجوا أنّ مذكرة "الإحضار" تُعتبَر "إعلانًا مفضوحًا عن ادارة ملف التحقيق العدلي من أروقة قصر بعبدا".

لعلّ هذا هو "بيت القصيد" الذي أراد رؤساء الحكومات السابقون التعبير عنه، ويؤكده العديد من المستشارين والمقرّبين، ممّن يتحدّثون عن "عدالة استنسابية" يتعامل بها المحقّق العدلي. ينطلق هؤلاء من شقَّيْن لهذه "العدالة"، يستند الأول إلى أنّ استهداف حسّان دياب تحديدًا، هو "استضعاف" له، فيما يسأل الثاني عن مبدأ "المساواة والشمولية".

بالنسبة إلى الاعتبار الأول، لا يتردّد أصحاب وجهة النظر هذه بالحديث عن "استهداف شخصي" لحسان دياب، انطلاقًا من الاعتقاد السائد بأنّه "لقمة سهلة"، لا سيّما وأنّه يفتقد لأيّ "حمايات"، وهو ربما "الحلقة الأضعف"، خصوصًا بعدما تخلّى عنه الفريق الذي أتى به أصلاً لرئاسة الحكومة، وبات يعتبره "خصمًا أساسيًا" له.

أما الاعتبار الثاني، الذي يسعى رؤساء الحكومات السابقون إلى "تظهيره"، فيقوم على "تحييد" رئيس الجمهورية ميشال عون عن الاتهام، رغم أنّ ما ينطبق على دياب يسري عليه أيضًا، طالما أنّه سبق أن أعلن صراحةً أنّه علم بأمر نيترات الأمونيوم قبل أيام من تاريخ الانفجار المشؤوم، ومع ذلك فإنّ أحدًا لم يضعه في دائرة الشبهات.

لكنّ هذا المنطق، الذي يقوم ربما على قاعدة "بيّي أقوى من بيّك"، لا يبدو مقبولاً لدى الكثير من اللبنانيين، الذين يضعون بيان رؤساء الحكومات السابقين، وقبلهم السيد نصر الله، وغيرهم من السياسيين، في إطار "عرقلة التحقيق" ليس إلا، في وقتٍ يُفترَض بالجميع تسهيل التحقيق ودعمه، لا التشويش عليه، واستصدار الأحكام الجائرة بحقه سلفًا.

ويشير هؤلاء إلى أنّه كان "الأجدى" بالسياسيين بدل توزيع الاتهامات يمينًا وشمالاً التجاوب مع طلبات المحقق العدلي، من منح أذونات ورفع حصانات وما شابه، على أن يكون "التقييم" بناءً على "النتائج" التي يتوصّل إليها التحقيق، تفاديًا لتكبيله وتقييده بخطوط حمراء مسبقة "تفرغ" التحقيق سلفًا من مضمونه.

ويسأل اللبنانيون عمّا يريده السياسيون فعليًا، فهل يسعون إلى "تنحية" القاضي البيطار كما فعلوا مع صوان قبله؟ وهل يعتقدون أنّ تكريس بدعة "تنحية" أي محقق "يتجرأ" على الادّعاء عليهم يمنحهم "صك براءة" لدى الرأي العام؟ وهل يريدون محقّقًا يكتفي بالتصويب على "الصغار"، في جريمة تُعَدّ "الأكبر" في تاريخ لبنان؟.

أسئلة كثيرة تُطرَح، لكنّها تبقى بلا أجوبة، لأنّ الأكيد أنّ القوى السياسية المتخاصمة ظاهريًا فيما بينها، متحالفة عمليًا على منع "المسّ" بأيّ منها، حتى باسم جريمة بحجم تفجير المرفأ، جريمة لا يزال كثيرون يريدون اعتبارها "من الماضي"، بل ربما "قضاء وقدرًا"، في استخفاف بمشاعر الأهالي، ولكن قبل ذلك، في "إهانة" لجميع اللبنانيين دون استثناء!.