كان تمويل السدّ العالي "لحظةً محوريّةً" في العلاقات الدّيبلوماسيّة بَيْن ​مصر​ والولايات المُتّحدة، بعدما تحوَّل مشروع السدّ المصريّ في وقتٍ مُبكرٍ، إِلى إِحدى "المُنازلات الكلاسيكيّة" للحرب الباردة... ففي حين أَنّ الولايات المُتّحدة وبريطانيا كانتا مُصمّمتَيْن على منع مصر مِن السُّقوط تحت النُّفوذ السّوفياتيّ، فإِنّهُما عرضتا على القاهرة أَن يقوم "البنك الدّوليّ" بدعم بناء السدّ، كقربان لتدفئة العلاقات مع النّظام النّاصريّ، لكنّ الخلافات بَيْن القاهرة وبريطانيا -الّتي كانت تُمارس السّيادة على الخُرطوم في ذلك التّوقيت– في شأن مسألة تقرير مصير السُّودان، وتوزيع حصص ​المياه​ بين القاهرة والخُرطوم تسبّب في نُشوب خلافاتٍ كبيرةٍ بين البلدَيْن، حيثُ كانت مصر تخشى مِن أَن يُصبح أَمنها المائيّ رهينةً للقرار البريطانيّ.

السدّ العالي

واتّخذَت القاهرة أخيرًا قرارًا جريئًا بالتخلّي عن المُفاوضات مع "البنك الدّوليّ"، والسّعي إِلى تمويل السدّ مِن مواردها المحليّة ومِن دون الاستعانة بمُؤَسّسات التّمويل الغربيّة، وأَمّمت "شركة قناة السُّويس للملاحة"، بهدف استخدام عائدات القناة لتمويل السدّ، وهو ما تسبّب لاحقًا في نُشوب أَزمة السُّويس الشّهيرة، حيث شنّت بريطانيا وفرنسا و"إِسرائيل" حملةً عسكريّةً ضدّ مصر، غير أَنّ العُدوان الثُّلاثيّ فشل في تحقيق أَيٍّ مِن أَهدافها الاستراتيجيّة، وبدلًا مِن أَنْ يتسبّب في ردع النّظام النّاصريّ أَو إِسقاطه كما كانت تأمل الدُّول المُعتدية، فإِنّه انتهى إِلى قطيعةٍ تامّةٍ بَيْن مصر والغرب، ودفع القاهرة إِلى التّحالُف مع السّوفيات الّذين قدّموا ثُلث التّمويل اللازم لبناء السدّ العالي، جنبًا إِلى جنبٍ مع كُلّ الخُبرات الفنيّة اللازمة لإِتمام عمليّة البناء.

ولكن مع انهيار الاتّحاد السّوفياتي ونهاية الحرب الباردة، زادت سطوة المُؤَسّسات الماليّة الغربيّة على التّمويل الدّوليّ، وأَصبح إِنشاء أَيّ مشروعٍ تنمويٍّ ضخمٍ في الدُّول النّامية، مِن دون الاستعانة بهذه المُؤسّسات أَمرًا متعذِّرًا، ومع تحوُّل مصر تدريجيًّا نحو المُعسكر الغربيّ مُنذ مُنتصف سبعينيّات القرن الماضي، باتت القاهرة قادرةً على الاستفادة مِن هذه الحقيقة عبر توظيف نفوذها السّياسيّ، واستغلال موقفها القانونيّ المُهَيْمِن بحُكم معاهدتَيْ العام 1929 و1959 المنظّمَتَيْن لاستخدام مياه النّيل، لمنع تمويل السُّدود في منطقة حوض النّيل، ومُمارسة حقّ النّقض على أَيّ مشروعٍ يُمكن أَن يُهدِّد حقوقها التّاريخيّة في المياه.

السدّ الأضخم

وفي المُقابل، فإِنّ جُهود إِثيوبيا الّتي سعَت إِلى جلب التّمويل لمشروعاتها على النّيل الأَزرق، غالبًا ما كانت تبوء بالفشل، وكانت أَديس أَبابا تعزو هذا الإِخفاق غالبًا إِلى الهيمنة الافتراضيّة لمصر، ومُمارسة القاهرة ضُغوطًا على الدّائنين والمُستثمرين الدّوليّين لمنع تمويل السدّ بدعوى عدم استدامته مِن النّاحيَتَيْن السّياسيّة والقانونيّة، ولكن إِثيوبيا وجدت الفرصة سانحةً أَمامها للمُضي قُدمًا في خطّتها لانتزاع الهيمنة على النّيل منذ العام 2011، حين استغلّت أَديس أَبابا انشغال القاهرة بعمليّة الانتقال السّياسيّ في أَعقاب الإِطاحة بالرّئيس المخلوع حسني مُبارك، وتفرُّغ الجيش لحماية هيمنته على السُّلطة على حساب قضايا الأَمن القوميّ وعلى رأسها الأَمن المائيّ. ووضعت حجر الأَساس للسدّ "الأَضخم" في أَفريقيا على النّيل الأَزرق.

سد النّهضة

وبقيت في تلك الفترة مُشكلة التّمويل قائمةً، ما دفع بأَديس أَبابا إِلى مُحاولة مُحاكاة تجربة السدّ العالي، ساعيةً إِلى تمويل سدّ النّهضة مِن خلال الموارد المحليّة، ولمّا كانت أَديس أبابا تفتقر إِلى أَيّ موردٍ وطنيٍّ ضخمٍ لتأميمه كما فعلت مصر، فإِنّها سعت إِلى ضخّ التّمويل الوطنيّ مِن خلال وسائل أَكثر تقليديّةً، مُعتمدةً في البداية على المصارف المحليّة الّتي تعرّضت لضغوطٍ مِن الحُكومة لمنحها قروضًا بفوائد مُخفّضةٍ، حيث فرضت السُّلطات على المصارف تخصيص نسبة 27 في المئة مِن قُوّة الإِقراض الخاصّة بها لمصلحة الدّولة، على رغم تحذيرات المُؤسّسات الدّوليّة مِن أَنّ ذلك يُمكن أَن يُؤدّيَ إِلى سحب السُّيولة مِن المصارف، وتباطُؤ النُّموّ الاقتصاديّ.

ولاحقًا فرضت الحُكومة الإثيوبيّة على مُوظّفي الخدمة المدنيّة، التبرُّع بجُزءٍ مِن رواتبهم للمُساهمة في إِنشاء السدّ، في إِجراءٍ حُكوميٍّ مُثيرٍ للجدل، زعمت المعارضة أَنّه فُرِضَ بالإِكراه، وأَنّ الكثير مِن المُوظّفين قد هُدِّدُوا بفصلهم مِن أَعمالهم إِذا رفضوا المُشاركة... وإِلى ذلك فقد جُمعَت التبرُّعات عبر رسائل الهاتف المحمول، ومسابقات اليانصيب، وحتّى الفعاليّات الرّياضيّة الّتي أُقيمت في كُلّ أَنحاء البلاد، بهدف جمع الأَموال لتمويل السدّ. كما ولجأت ​إثيوبيا​ إِلى حيلةٍ قديمةٍ، غالبًا ما تستخدمها الحُكومات الفقيرة للاستفادة مِن مواطنيها المهاجرين في الدُّول الغنية، وهي إِصدار سندات تمويل مُوجَّهة في شكلٍ خاصٍّ إِلى مُجتمعات المُهاجرين، وغالبًا ما يُوفِّر هذا النّوع مِن التّمويل للحُكومات، الكثير مِن المزايا الّتي لا تتوافر غالبًا للدّائنين الأَجانب، أَوّلها توافر الحسّ الوطنيّ، حيث يحبّ المُهاجرون غالبًا فكرة أَنّ أَموالهم تُستَثمر في مشروعاتٍ تدرّ النّفع على أَهاليهم في الدّاخل وبخاصّةٍ إِذا كانت تدرّ عليهم الأَرباح في الوقت نفسه، وثانيها أَنّ هؤلاء المُهاجرين غالبًا ما يكونون صبورين للغاية ويقبلون بشراء سنداتٍ ذات آجالٍ طويلةٍ، نظرًا إِلى العلاقات طويلة الأَمد الّتي تربطهم بالمصدر (حكومات بلادهم في هذه الحالة)، كما ويبقى هؤلاء المهاجرون أَقلّ تأثُّرًا بمخاطر العملة، لأَنّه حتّى مع افتراض انخفاض قيم استثماراتهم حال انهيار العملة، فسيكون في مقدورهم الاستفادة من العملة المُخفّضة لشراء الكثير من الأُصول الرّخيصة.