تتفق البشرية في العصر الحديث على تعريف جامع لوظيفة ​الدولة​، ينتهي مدلوله الى واجبين نهائين هما العدالة الاجتماعية والأمن الاجتماعى. يكاد أن ينعدم في أنظمة الحكم المتنوعة عبر القارات وجود دولة دون ارتكاز على هاتين الوظيفتين، فبغيابهما تصبح السلطات مجرد هيمنة، تسلطٌ بالقهر أو أي شئ إلا أن يكون هناك دولة.

إن المسيرة نحو العدالة الاجتماعية والأمن الاجتماعي، المرتكز عليهما أي حكم شرعي، مسيرة دؤوبة بطبيعتها و لا تتوقف لأنها تواكب إشكاليات حياة الانسان من ولادته وحتى مماته، كما أن معاناة المواطن في دولة عادية المقاييس، لاسيما تلك المتفرعة من حقوق الحياة الأساسية، لا تبق معاناة فردية، بل تتعدى الفرد ليتبناها المجتمع باعتبار أن الكل هو اجتماع الأجزاء و أن الظاهرة قد تكرر نفسها لدى أيٍ كان. من هنا، تنشأ القوانين في المجتمعات السوية مراعية الخيار الفردي والجماعي، بما في ذلك العادات والتقاليد والتاريخ والظروف الحياتية المختلفة، فلا يمكن أن تكون القوانين في بلدين مختلفين طبق الأصل.

في ​لبنان​ تسير هذه القواعد الإنسانية نحو آفاق عكسية تماماً، فلا أمن اجتماعي ولا عدالة اجتماعية في قواميس قوى الحرب المتحكمة التي ورثت نواة دولة واعدة كانت في أسوأ الأحوال ترضخ لمطالب مواطنيها و تؤسس لمشروع الأمن الاجتماعي والعدالة. فمنذ أن تسلمت قوى الحرب التدميرية وتوابعها مقاليد الحكم في لبنان وهي تعمل لأجل اختصار الدولة ومفهومها في هدف واحد، و هو استنزاف المواطن مادياً وتجميع كل ما يمكن جمعه من مال، ولهذه الغاية، تفننت في وضع قوانين عديدة تهدف الى زيادة الجباية ومضاعفتها بوقاحة لامثيل لها و من دون أي استثمار لموارد المجتمع بما يسهم في أمنه او في خدمة العدالة الاجتماعية، أو في ارتقاء المجتمع والفرد فيه. لقد عملت قوى الحرب الحاكمة وتوابعها على إلغاء كل ما هو اجتماعي نزولاً صوب الفردية في عملية تفكيك ممنهجة وحثيثة فلا قوانين تناسب الحياة اللبنانية او حتى قوانين عادلة من زاوية اجتماعية، بل قوانين وتشريعات تستنسخ مع بعض التعديلات من دول أخرى لاسيما تلك التي تعود بالمال، أو توضع دون دراسة او تحليل وأيضاً لغرض الجباية بمعظمها و دائماً على حساب الانتاجية العامة أو الفردية.

ما جنته قوى الحرب الحاكمة من تشريعات ​الضرائب​ والرسوم المجحفة مبالغ طائلة قد لاتتوفر الا من بلد نفطي، ومع ذلك، لم تخلق أي مشروع اقتصادي او اجتماعي جديد، لا بل استغلت ماتركت من القديم لزيادة ايراداتها، واضعة المواطن في خوف دائم على مصيره، فلا تعليم مجاني لائق، ولا استشفاء مجاني كاف، وحتى لا عدالة مجانية في حال أراد المواطن أمانه من دولته، و تنعدم الخدمات المجانية وتتلاشى فكرة الدولة حتى ليصبح التخطيط الاستراتيجي أو توزيع فائض ​الموازنة​ كما في كل الدول نكتة سمجة في بلد تطغى فيه الضرائب والرسوم والأثمان على كل جوانب الحياة و تحت نظام إدارة وحكم لا يكتفي بأنه لا يقدم لمواطنيه أي شئ، لا بل يسلبهم اموالهم وكراماتهم وأعمارهم بوحشية شديدة بما يخفي استعباداً وتملكاً، إن دولة قوى الحرب المتحكمة تبدأ غايتها بالمال واليه تنتهي، وهكذا إلى أن ماتت البلاد بمجتمعها ومقدراتها وهيكليتها ووصلت الى ما وصلت اليه.

وبافتراض أن السلطة في لبنان تمثل دولة مع أنها ليست كذلك قياساً الى التعريف الحديث لمفهوم الدولة، وإذا كان نموذج الدولة الذي أسسته قوى الحرب الحاكمة لا يعدو كونه عائقاً حياتياً مستمراً أمام المواطن والمجتمع برمته فلنا من بعد ماسبق أن نطرح سؤالاً جدياً: ما هي وظيفة الدولة في لبنان؟.

ماهي وظيفة الدولة منذ ​اتفاق الطائف​ وحتى الآن؟ الإجابة على هذا السؤال وفي ضوء ماسبق صادمة بلا شك، وتكشف أن لا دولة في لبنان منذ 1975 وحتى الآن بالمعنى المؤسساتي والشرعي للكلمة. هي إجابة ستستوجب مراجعة تاريخية من شعب يفتقر الى النقد الذاتي الهادف، مراجعة إن تمت ستفرض الحاجة الى نظام جديد ودولة جديدة بكل تفاصيلها.