بعد نيّف وعشر سنين من قطيعة شبه معلنة سبقتها سنوات من القطيعة العملية على صعيد حكومات ​لبنان​ المتعاقبة منذ العام ٢٠٠٥ «اضطر» لبنان الرسمي وتحت وطأة انهياره الاقتصادي وأزمة تأمين الطاقة للاستهلاك المحلي، اضطر لبنان وبعد ان «أذنت له ​أميركا​» بالتواصل مع سورية لتكون معبراً للغاز المصري وللكهرباء الأردنية المستجرّة الى لبنان، فأرسل للمرة الأولى منذ عشر سنين وفداً وزارياً الى ​دمشق​ طلباً لموافقتها أو قبولها بعمليات المرور والاستجرار تلك.

لقد تمّ التواصل مع سورية اليوم بضغط من الحاجة اللبنانية وبإذن أميركي فشكل صفعة مدوّية لدعاة العزلة وتطويق سورية ولأصحاب سياسة «النأي بالنفس» الخبيثة، وأكدت مرة أخرى وستكون متبوعة بمرات لا تنتهي ولا تنقضي، أكدت انّ عامل الجغرافيا هو عامل حاسم في رسم سياسات الدول والكيانات السياسية، فإذا كان من الممكن أن يزوّر التاريخ الذي يكتبه عادة المنتصر وفقاً لأهوائه، فإنّ من المستحيل القفز فوق حقيقة الجغرافيا التي لا يمكن العبث بها أو القفز فوق إسقاطاتها.

الآن، وبدون الخوض في أقوال ومناكفات حول صلة لبنان بسورية من الأوجه المتعددة فإنه يكفينا الانطلاق من الواقع القائم للتأكيد على حقيقة استحالة عزل لبنان عن سورية أو فرض قطيعة لبنان عن سورية مهما كانت الدوافع والنوازع والأهداف. وهنا ننوّه بما اعتمد في «وثيقة الوفاق الوطني» التي أقرّت في مؤتمر الطائُف في العام ١٩٨٩ وبقطع النظر عن رأينا بهذا الاتفاق، فإننا نتعامل الان معه على أساس انه اتفاق قائم ونافذ يجاهر اللبنانيون جميعاً (حقيقة أو مداراة أو رياء) بالتمسك به، حيث جاء فيه «انّ لبنان وطن نهائي لكلّ أبنائه… تربطه علاقات مميّزة مع سورية» في نص وسطي اقرنت فيه «نهائية الكيان اللبناني» بـ «تمايز العلاقات مع سورية»، ما شكل ترضية وعلاجاً لهواجس أكثر من جهة.

لقد ترجمت هذه الثنائية بعد العام ١٩٨٩ في صياغة علاقات لبنان وسورية لجهة تنظيم المعاهدات والاتفاقات التي كان أهمّها «معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق «بين البلدين وإقامة المجالس والهيئات واللجان المشتركة والتي كان أرفعها «المجلس الأعلى السوري اللبناني«.

بيد انّ البعض يقول بأنّ هذه الاتفاقات صيغت بين البلدين في ظلّ وجود أكثر من 10 آلاف جندي وضابط سوري في لبنان لكنه ينسى انّ الدخول السوري في البدء في العام ١٩٧٦ جاء بناء لطلب لبناني من جهة مسيحية للدفاع عن لبنان، ثم تكرّس وجودهم الشرعي بقرارات القمة العربية في العام ١٩٧٦، وتعرّض هذا الوجود الى مدّ وجزر من حيث مشروعيته وقبول اللبنانيين به الى أن كان العام ٢٠٠٥ الذي شهد فعلياً ورسمياً وميدانياً خروج الجيش العربي السوري من لبنان بشكل اتفاقي أكدت عليه مراسم عسكرية لوداع هذا الجيش و»شكره على ما قدّم من تضحيات من أجل لبنان».

خرج الجيش العربي السوري من لبنان وبقيت قائمة قانونياً كلّ الاتفاقيات والمعاهدات والمجالس الناظمة للعلاقات بين البلدين بصرف النظر عن رغبات هذا او ذاك في لبنان. خاصة انّ لبنان شهد بعد الخروج السوري ظهور ٣ تيارات من حيث العلاقة بسورية… التيار الأول وهو تيار الاخوة والصداقة والمصالح المشتركة وعبّر عنها تيار ٨ اذار، والثاني تيار العداء لسورية والقطيعة معها وعبّر عنها يومها تيار ١٤ آذار، وتيار ثالث استقلّ بتجسيده «التيار الوطني الحر» بقيادة العماد ​ميشال عون​ وفيه تختلف النظرة الى سورية وفقاً لوجودها او خروجها من لبنان. فإذا كانت موجودة بجيشها فإنها تعتبر بنظرهم محتلة او منتدبة او وصية ويجب مواجهتها حتى تخرج، وإذا خرجت تكون العلاقة والصداقة معها ضرورية لمصلحة الطرفين.

بيد انّ التيار الثاني، أيّ تيار العداء لسورية، هو الذي فرض إيقاعه على ​الدولة اللبنانية​ بشكل واسع منذ العام ٢٠٠٥ وفرض القطيعة الواقعية معها، ثم شنّت الحرب الكونية على سورية بقيادة أميركية لإسقاطها ونفذ العدوان على مراحل كان منها مرحلة العزل والتطويق والحصار وهنا ابتدع جهابذة التيار الثاني ذاك «بدعة النأي بالنفس» في موقف أرادوا منه المساهمة في حصار سورية كما تريد أميركا ثم جاء ​قانون قيصر​ الأميركي الذي فرضت فيه أميركا رزمة من التدابير الكيدية ضدّ سورية أسمتها وبشكل غير قانوني «عقوبات على سورية».

لقد تراكمت على طريق ​بيروت​ – دمشق منذ العام ٢٠٠٥ السلبيات والعوائق من الجانب اللبناني، دون ان تبادل سورية لبنان بالمعاملة بالمثل لأنها كانت تعتبر انّ أخوة البلدين ومسؤولية سورية بوصفها «أمّ الصبي» أو «الشقيق الأكبر»، هي أكبر من حقد حاقد او نزعة جاهل او فعل مرتهن وعميل للخارج يعمل ضد مصلحة البلدين.

بيد ان التيار الأول، تيار الاخوة والصداقة مع سورية، معززاً او متفاهماً مع التيار الثالث، تيار التمييز في العلاقة حسب الموقع والانتشار، لم يسمح لمكائد التيار الثاني ان تأخذ مداها أو تحقق كامل أغراضها بأحداث القطيعة المطبقة مع سورية لكنهم أيضاً لم يتمكنوا من فرض إيقاع طبيعي على هذه العلاقات وفقاً للمعاهدات والاتفاقيات الناظمة لها والتي استمرت قائمة كما أشرنا، وبالتالي لم يتمكن أحد في لبنان من نسج العلاقة وفقاً لكلّ ما يريد بل تمكن كلّ فريق من تنفيذ شيء مما يريد وعجز عن فعل أشياء يتمناها، ما أنتج جموداً او شللاً فعلياً في العلاقات اللبنانية مع سورية ارتدّ ضرراً على البلدين. خاصة في ملفات هامة كبرى مثل ​ملف النازحين السوريين​ الى لبنان وملف ​ترسيم الحدود​ البحرية للمنطقة الاقتصادية الخالصة للبلدين، كما وملف الترانزيت وعبور البضائع اللبنانية عبر سورية، وملف الطاقة واستجرار الكهرباء عبر سورية إلخ…

لقد تضرّر لبنان من سوء العلاقة مع سورية اكثر مما تضرّرت منه سورية التي عرفت كيف تتعامل مع الكيد اللبناني وتخفف من آثاره، أما لبنان ونظراً لواقعه الجغرافي الذي كما ذكرنا لا يمكن التنكّر له فإنه وصل في ذروة أزمته الى الحقيقة الساطعة التي تعامى عنها أصحاب تيار العداء لسورية، لكن أميركا التي تنظر الى الأمور بميزان المصالح وتقيسها بمقياس المنافع دون ان يكون للمبادئ او المشاعر دوراً في التقييم، رات انّ سياسة الضغوط القصوى على سورية ولبنان بمقتضى «قانون قيصر» وخطة بومبيو وصلت الى حدّ باتت فيه تنتج عكس ما هو متوخى منها عملاً بقاعدة «كلّ ما تجاوز حدّه انقلب الى ضدّه»، خاصة مع ظهور استعداد طرف لبناني فاعل للتوجه شرقاً وكسر الحصار مع اقتداره للدفاع عن قراره المتمثل بداية بقرار استيراد النفط الإيراني عبر سورية، والمتحفز لاتخاذ قرارات أخرى ستشكل في حال حدوثها غير المستبعد، انقلاباً في الوضع اللبناني على الصعيد الاقتصادي سيتبعه حتماً تغييرات على الصعد الأخرى، وهو حتماً في غير مصلحة أميركا والغرب.

في ظلّ المخاوف الأميركية هذه «أذنت» أميركا للبنان بالعودة الى تفعيل اتفاقات الخط العربي، وسمحت للأردن في عقد لقاء تنفيذي في عمّان يشارك فيه لبنان وسورية ومصر من أجل هذا التفعيل، ولهذا شاهدنا الوفد الوزاري اللبناني في دمشق، وسنرى وفداً وزارياً لبنانياً في عمّان ينضمّ الى مصر وسورية للبحث في استئناف عمليات ضخ ​الغاز​ واستجرار الكهرباء الى لبنان عبر سورية في مشهد من شأنه وعلى تعدد معانيه، ان يؤكد علي حقيقة الجغرافيا التي مفادها انّ لبنان لم ولن يقدر يوماً على إدارة الظهر لسورية او القطيعة معها مهما جهد جهابذة وعملاء الخارج وأعداء لبنان في ذلك. فالجغرافيا أقوى من المكائد وطبعاً أقوى من التاريخ خاصة إذا تمّ تزويره.

وعلى ضوء ذلك سيكون على لبنان ان ينظر لمصالحه ويحققها بالعمل المشترك مع سورية وفقاً لما هو قائم من اتفاقات او وفقاً لما يمكن ان يُعقد منها، وإذا كان طرف ما يجد انّ الاتفاقات والمعاهدات القائمة فيها غبن او إجحاف بحقه فإنّ تعديلها ممكن إذا توفر حسن النية والرغبة الصادقة في التعاون والعمل المشترك، لأنّ في ذلك مصلحة للطرفين لا يمكن القفز فوقها مهما كانت الاعتبارات والظروف.

ويبقى ان نقول انه من المعيب ان ننتظر إذن الخارج من أجل لقاء أخ او شقيق او صديق.