أصبحت حكمانيّة المسافة الآمنة بمثابة مبادئ أساس في قواعد الحياة وسلوكيّات الإنسان المعاصر، في العالم، شرقًا وغربًا. ولم يعد مفهوم القربى والمقربة يعكس فعل التّضامن والألفة والمحبّة، إذ فرض علينا كوفيد 19 إعادة التّفكير في مفهوم العلاقات الاجتماعيّة الزّائفة والهشّة، بل إعادة بناء قيمنا وروحانيّتنا، وتفعيل لقاءاتنا لا على مستوى الإنتاجيّة في زمان القحط والأزمات، إنّما التّركيز على العمليّة الإبداعيّة ضمن مظروفيّاتنا المقلقة.

في زمان القلق القاتل، لا بدّ من استدعاء الرّوحانيّات كما نستدعي الطّبّ في حالة المرض، لما تقوم به الرّوحانيّات لصالح الرّوح، من شفاءات، هو نفسه ما يقوم به الطّبّ لصالح الجسد. نعم، نحن في زمان، الجسد فيه ضعيف، والرّوح تنازع. وكيف لا، وقلق الأزمة الاقتصاديّة يطال الوجود بكلّأبعاده: الهويّة، الكيان، الوطن، الإنسان. إلّا أنّ الرّوحانيّات هي الّتي تجتذبنا، وتريحنا، وتخفّف عنا الكآبة الجارحة اللّامتناهية الّتي تعانق أرواحنا في أوطاننا.

بيد أنّ الرّوحانيّات ليست مجموعة تمارين نقوم بها، ولا مقدارًا من علوم نكتسبها، إنّما هي اختبار روحيّ عميق نحاول فهمه وإبرازه، من خلال دلالات العقل والعلوم الإنسانيّة واللّاهوتيّة، للإحاطة بالحقيقة السّمياأي الله. ولئن كانت الرّوحانيّات تشفي وتعطي معنى للحياة ومعاناتها، فهي أيضًا تشجّع الانهمام بالكيان وعيش دعوة الوجود الّذي لسنا فيه مجرّد عابري سبيل وحسب، بل نحن مشاركون فيه فاعلون.

إلا أنّ الخطر في روحانيّات عالم اليوم المبنيّة على الشّعور المُغيِّب الإرادة الحرّة المستنيرة بالعقل، يجعلمن هذه الرّوحانيّات نوعًا من أنواع الخرافات، والهرطقات،والشّعوذات،ثمارها قاتلة للإنسان نفسه. ألم يقل السيّد المسيح "من ثمارهم تعرفونهم"؟(متى 7: 16) وتتحوّل الرّوحانية إلى أصوليّة بغيضة تحوّل المفهوم الدّينيّ من مشروع خلاصيّللإنسان إلى ديانة وثنيّة إلحاديّة قاتلة للمتديّنين أنفسهم.

الرّوحانيّات، من حيث هي علاقة باطنيّة بين الإنسان والله، ترفع الإنسان إلى حيث الله، فتستحيل هذه العلاقة العاموديّة علاقة أفقيّة أي علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وإلّا أدّت إلى أيديولوجيّة دينيّة تلقي الأحكام والمسبقات على الآخر،منصِّبة نفسها أصوليّة فارغة تدين الآخر وتكفّره على اختلافه وتمايزه وفرادته.

فإذا، كان لا مفرّ من عيش الأزمة الّتي تحيط بنا في مجالات كافّة، فلتكن الرّوحانيّات لقلقنا مسكّنًا، ودواء، ورجاء بخلاص آتٍ لا محال، لندرك حكمانيّة المسافة الآمنة من الخطيئة والكبرياء والمعصية، ونرتكز على روحانيّات سليمة تمتّن العلاقة بين الإنسان والله، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وتقتل القلق ولا تضاعفه،إذ تعطي الإنسان جرعات إيمان، فيعيش، على الرّغم من كلّ التّحدّيات، بسلام ودعة. فحذارِ من روحانيّات خادعة تزيد "قلقيّات" حياتنا، وتفقدنا حكمانيّة الإيمان المستقيم.