لا يُقنعني السّباق المحموم إلى زرع الصّلبان في أرض المسيحيّين؛ فعلى الجلجلة كان ثمّة صليب واحد عُلِّق عليه المُخلّص!.

لا تُقنعني التماثيل المنصوبة أينما كان، تماثيل القدّيسين والقدّيسات، التي تكاد تستولي على الله؛ فنحن نعتاد على تأليه ما ليس بإله، ونقترب من الصّنميّة!.

لا تُقنعني المُظاهرات "الرّوحيّة"، ولا زعيق مُكبّرات الصّوت التي تفرض الصّلاة عَنوةً؛ فالمرّة الوحيدة التي صدح فيها صوت الشّعب مُهلّلاً، ومُرَحّباً، كانت المرّة التي صلبه فيها عند انتهاء المسيرة!.

لا تُقنعني السّلاسل والقلادات المعلٌّقة برقاب "المتديّنين"؛ فالفريسيّون أيضاً كانوا "يُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُم، ويُطَوِّلُونَ أَطْرَافَ ثِيَابِهِم " ليراهم الناس!(متى23: 5).

لا تُقنعني العروض التّصويريّة "الفايسبوكيّة" التي تشحد إعجاب المتلصّصين، فيسوع لم يتوانَ عن أن يُشبّه هؤلاء المُستعرضين بالقبور المُكلّسة التي يَختلف ظاهرها عن باطنها!.

وبالطبع، لا تُقنعني بطولات الغوغائيين الذين يدّعون الإيمان؛ فالإنجيل ملآنٌ بهؤلاء المتديّنين الذين يغضبون، ويُهدّدون، ويتوعّدون عند سماع الكلام الإلهي! .

ولا يُقنعني سلوك المدافعين عن المسيحيّة وحقوق المسيحيين بقوّة القوّة؛ فالمسيح لم يعتمر يوماً، خوذة، ولم يستقوِ بحربة، ولم يحتمِ بدرع، ولم يحمل سيفاً!.

يُقنعني الصّليب المتّكئ على أكتاف المؤمنين المكتفين بالله، وبما هو لله! تُقنعني عبادة الله الحيّ الذي يُقدّس ويُحيي مَن يتبعه! تُقنعني الصّلاة الهادئة الوادعة التي تسبر أعماق الله! تُقنعني الخدمة التي تصبو إلى معرفة مجد الله المتجلي في وجه المسيح(2قور: 4-6) ووجه المسيح المتجلّي في وجوهنا! تُقنعني الحياة المسيحيّة البسيطة البعيدة عن تعقيدات المُعقّدين! وتُقنعني المحبّة في قوّتها التي تَهزُم، ولا تُهزم، حتى ولو بدت حماقة!.

وباعتقادي أن المسيحيّة لم تعُد مُقنعة، وهي إلى أُفول في هذه الشرق! والسبب في ذلك، لا يعود إلى كون المسيحيّة قد فقدت جاذبيّتها، وقدرتها على الخلاص، وإنما إلى حياة "المسيحيين" أنفسهم، الذين يُخالف سلوكهم عقيدتهم، ويزوّرون كلمة الله، بشهادة حياة مُعادية للإنجيل(2قور4: 2). وللأسف، يعيش المسيحيّون حالة انفصام خطيرة بين ما يؤمنون به، وما يعيشونه. ما يؤمنون به شيء، وما يعيشونه شيء آخر مختلف؛ مُهترئ، مُنفِر، مُقزّز، مُقرِف! مسيحيّة السّواد الأعظم من المسيحيين، هي على هذا النّحو، ولم تَعد انتماءً إلى المسيح واتّباعاً له!.

قد يوافقني البعض وقد لا يفعل، ولكنَّ من يُشارف قاع الواقع، يُدرك، من دون أي لبس، أنّنا بمعظمنا، رجال دنيا ودين، أخذنا المسيحيّة، بسلوكنا المناقض والمعادي للإنجيل، إلى مكان آخر مُختلف بطبيعته عمّا هي المسيحيّة التي أرادها يسوع! لدرجة أننا نكاد نحرمها من وجهها المُطلّ على آفاق الرّوح، والمنفتق من جوهر المحبة في قرابتها لله وللإنسان، والمُشع محبّةً، وسلاماً، وحقّاً، وعدالةً، ورجاءً صالحاً للبشرية جمعاء! ونكاد نجعل منها مسيحيّة هزيلة يتحكّم بها بعض "التقويّين" المتديّنين إلى حدّ الهوس المَرضي، والبلاهة! وبعض الطقوسيّين الذين يقيسون النجاح بعدد المرّات التي تُؤَمُّ فيها الهياكل، وبجمهور الأشخاص الذين يتكدّسون في الإحتفالات الدينيّة، وما يليها من هرجٍ ومَرج! وبعض البرجوازيين من أصحاب السّلطات، الدينيّة والدنيويّة، الذين يسبحون في الفضاء الخارجي! وبعض الفاشلين، وفارغي الرأس وناقصي الرؤية، من الذين يتبوأون المناصب في المراكز الحسّاسة، والمؤثِّرة! وبعض الغرائزيين الذين يواجهون العين بالعين، والسنّ بالسنّ، والحقد بالحقد، والسّفالة بالسّفالة، والإهانة بالإهانة، والبذاءة بالبذاءة، والخساسة بالخساسة! وبعض المتصارعين على السّلطة، والمال، والحصص، والمصالح، والنّفوذ! هؤلاء كلّهم يُصوّرون المسيحيّة بصورة قاتمة، ويُقوّضون أركانها في هذه البقعة من جغرافيّتنا المشرقيّة!.

المسيحيّة شيء، والإنتماء إلى المسيح واتّباعه شيء آخر! المسيحية ليست انتماءً إلى جماعة كنسيّة، وفرقة، بقدر ما هي انتماء إلى شخص أعطى معنى لحياة المؤمنين به، ولحياة الإنسان بشكلٍ عامّ! الإنتماء إلى المسيحيّة يتولّد من الإيمان بشخص المسيح يسوع، ويفترض الإقتداء به وبحياته، وتبنّي نهجه، في الجماعتين الصغيرة والكبيرة، والسّعي إلى ترسيخ دعائم حضارة المحبة التي أتى بها، وقيم الملكوت، وإلى بناء ملكوت السّلام، والعدل، والحقّ في العالم! وإلاّ، ما نفع المسيحيّة إن لم تكن مجال ارتقاء بالنّفس، وبالبشرية إلى فوق، وقيادة حركة التاريخ إلى الأمام! وما نفع المسيحيين الذين تفوحُ منهم رائحة النتانة! وبماذا يختلفون عن غيرهم من الذين تفوح منهم الرائحة نفسها! الملح الذي لا يُملّح يُلقى خارج أسوار المدينة ويُداس. والمسيحيون الذين لا يعملون عمل الله في أرض الله التي يُقيم فيها البشر، سينتهي بهم الأمر إلى خارج الأسوار، مُضَيّقاً عليهم، ومسحوقين سحقاً، لأنهم لم يعرفوا زمن افتقادهم(لو19: 43-44).

ولكنّنا أبناءُ الرّجاء، نُعوِّل على افتقاد الله لنا من خلال بقيّة باقيّة ناجيّة من الملوثات، ومختارة بالنعمة لتعود فُتحيي، من جديد، الأمانة لإنجيل المسيح في واقع الشعب السوسيولوجيّ.