في أولى تصاريحه الإعلاميّة بعد تركيب السُلطة التنفيذيّة الجديدة، أعلن رئيس الحُكومة الجديد نجيب ميقاتي سلسلة من الأهداف التي ستعمل الحُكومة التي يرأسها على تنفيذها. لكن على الرغم من أهميّة الأهداف المَوضوعة، إنّ أولويّات الناس هي في مكان آخر تمامًا. وهذا الأمر قد يتسبّب بهوّة خُطيرة، مُرشّحة لأن تكبر بسرعة مع مُرور الوقت، وذلك بين الحُكومة الجديدة من جهة، والقسم الأكبر من الشعب اللبناني من جهة أخرى.

فبالنسبة إلى الحُكومة، وبعد إنجاز البيان الوزاري، وتجاوز محطّة نيل الثقة، ستكون السُلطة التنفيذيّة أمام سلسلة من الخُطوات المرسومة سلفًا، وأبرزها:

أوّلاً: تنشيط مسار التفاوض مع مُمثلي صُندوق النقد الدَولي، على أمل الحُصول على مُساعدات ماليّة عاجلة وعلى قُروض طويلة الأمد، وذلك بعد الإتفاق على خطّة طريق إقتصاديّة - ماليّة إصلاحيّة. والنجاح في هذا المسار غير مُرتبط بخيارات الحُكومة، بقدر ما هو مُرتبط بقرارات سياسيّة من الدول الكُبرى بشأن لبنان. وإذا كان صحيحًا أنّ المُساعدات ستُربط بسلسلة من الشُروط القاسية التي على السُلطات في لبنان تنفيذها، فإنّ الأصحّ أنّ تحديد حجم هذه المُساعدات ومدى تأثيرها على الوضع في لبنان يرتبط بإتفاقات إقليميّة-دوليّة تتجاوز الدور اللبناني المَحدود.

ثانيًا: المهمّة الثانية الرئيسة للحُكومة تنصّ على إطلاق مسار إصلاحي يشمل إعادة هيكلة القطاع الرسمي بكامل مؤسّساته، والبدء بإجراءات ملموسة لوقف الهدر وحتى لمُكافحة الفساد، وإعادة جدولة دُيون لبنان الداخليّة والخارجيّة، والعمل على مُوازنة الواردات مع المصاريف لعادة التوازن إلى ماليّة الدَولة، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، إلخ. لكنّ المُشكلة أنّ هذه الإصلاحات الضروريّة، عرضة للفشل، بسبب ضيق الوقت حيث أنّ الفترة الزمنيّة المُتاحة لعمل الحُكومة الجديدة مَحدودة، وكذلك بسبب إرتباط الإصلاحات المَذكورة، بتوازنات سياسيّة داخليّة دقيقة جدًا، وبإعتبارات طائفيّة ومذهبيّة حسّاسة، ناهيك عن أنّ الأزمات المَوروثة ستؤدّي إلى إنحراف إهتمامات الحُكومة عن الإصلاحاتالمَطلوبة.

ثالثًا: المهمّة الثالثة الرئيسة للحُكومة تقضي بتحضير الأجواء لإتمام الإنتخابات النيابيّة في موعدها المُقرّر في ربيع العام المُقبل، وفي أيّار تحديدًا. وهذا الأمر يتطلّب تعديلات إلزاميّة على القانون المَذكور، خاصة بشأن بعض البُنود المُرتبطة بإضافة ستة نوّاب للبنانيّي الإغتراب، وبإقامة مراكز تصويت مركزيّة (ميغاسنتر) في داخل لبنان، الأمر الذي قد يفتح الباب على عودة النقاش بشأن قانون الإنتخاب بأكمله، خاصة وأنّ هناك مُحاولات من أكثر من جهة لتغيير القانون الإنتخابي، لا سيّما من قبل رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، وكذلك من قبل جهات أخرى، منها "تيّار المُستقبل" و"الحزب الإشتراكي"، إلخ. إضافة إلى جهات عدّة مَحسوبة على قوى "المُجتمع المَدني". وعلى الرغم من ذلك، من المُرجّح أنّ تنجح الضُغوط الدَوليّة المُرشّحة للتصاعد خلال الأشهر المُقبلة، في تأمين إنجاز هذا الإستحقاق الإنتخابي في موعده، وفق القانون الحالي مع بعض التعديلات الطفيفة.

رابعًا: سدّ الشُغور في المراكز الرسميّة، وإستكمال التعيينات المُتعثّرة في أكثر من وزارة وإدارة وهيئة رسميّة، حيث بات يُوجد شُغور في عدد كبير من المناصب، وحيث تُدار العديد من المرافق العامة من قبل مسؤولين بالوكالة وليس بالأصالة. والأولويّة في هذا السياق ستكون لصالحالتشكيلات القضائيّة، ولتعيين أعضاء مجلس القضاء الأعلى، إلخ.

في المُقابل، إنّ أولويّات الناس مُغايرة تمامًا لأهداف الحُكومة، فالناس جميعهم يُريدون حلاً فوريًا لأزمات الكهرباءوالبنزين والمازوت، وكلّ العُمّال والمُوظّفين في القطاعين العام والخاص يريدون حلاً سريعًا لمُشكلة إستفحال الغلاء وإنعدام القُدرة الشرائيّة، والشعب كلّه يتطلّع لتصحيح الرواتب والأجورولإستعادة حقّه بحياة كريمة بعيدًا عن الفقر والعوز. والمَطالب تتشعّب تبعًا لحاجات كل شريحة من شرائح المُجتمع، فهذا يريد خفضًا للأقساط ليتمكّن من مُتابعة تعليم أولاده، وذاك يريد الحُصول على دوائه بإنتظام بسعر مبيع بمتناول اليد ليتمكّن من مُتابعة علاجه، وثالث يريد إستعادة أمواله المَحجوزة في المصرف ليتمكّن من مُواجهة الغلاء المُستشري، إلخ. وهناك من يريد أن يلقى المُساعدة للخروج من حال البطالة المُزمنة، ومن يريد أن يحصل على التعويض المُلائم عن أضرار إنفجار المرفأ، إلخ.

في الختام، من الواضح أنّ خُطط الحُكومة مُتوسّطة إلى طويلة المدى، علمًا أنّ "عُمرها" المُتوقّع قصير. والمُشكلة أنّ صبر الناس قد نفذ، وهم ليسوا على إستعداد لإعطاء هذه الحُكومة أي فترة سماح، كما يحصل عادة مع أيّ حُكومة جديدة، لأنّ واقع الحياة في لبنان اليوم لم يعد يُطاق، وصار يفتقر لأبسط مُقوّمات العيش الأساسيّة. والمُشكلة الأكبر أنّ لبنان الغارق بمشاكله المَوروثة الكثيرة، سيدخل قريبًا في أجواء الإستحقاقات الإنتخابيّة المُنتظرة، بدءًا بالإنتخابات النيابيّة، مُرورًا بالإنتخابات البلديّة، وُصولاً إلى الإنتخابات الرئاسيّة التي يُنتظر أن يتمّ بعدها تركيب سُلطة سياسيّة جديدة مُتكاملة. ومن اليوم وحتى ذلك الحين، ستبقى المشاكل اليوميّة الحاليّة هي الطاغية، علمًا أنّ هذه المشاكل قادرة بسُهولة على إفشال أكثر الوزراء إمساكًا بالملفّات، وإدراكًا لسبُل الإنقاذ، وإصرارًا على الإصلاح، فكيف بالحري إذا كانت باكورة بعض التصاريح الوزاريّة مليئة بالهفوات المُضحكة-المُبكيةوالتي لا تُبشّر بالخير!.