العلاقات الصّينيّة–الإثيوبيّة، وضمنًا ما يتعلّق منها بالمُساعدات والقُروض والعقود المُبرَمة، والمُخصّصة لمشاريع المياه وغيرها مِن المصادر، تُعَدّ نموذجًا لـ"الاتّجاه شرقًا" كما تُطلق عليه التّسمية الآن. ووسط هذه المشهديّة تُطلّ حينًا التّهديدات بنزاعاتٍ إِفريقيّة برأسها... على خلفيّة الصّراع على المياه. كما وتظهر حينًا آخر التوتّرات الأَقلّ حدّةً في القارّة السّمراء.

غير أَنّ بكين بدأت رحلتها في إِثيوبيا باكرًا، وتحديدًا في العام 2002، حين قامت بتمويل "سدّ تكيزي" بقيمة 224 مليون دولار عبر "كونسورتيوم" مِن الشّركات الصّينيّة، ولكنّ الإِعلان الأَكثر صخبًا للوجود الصّينيّ في منطقة حوض النّيل حدث في العام 2012 حين قرّرت بكين استثمار 500 مليون دولار أَميركيّ في سد "جايب 3" المُثير للجدل على نهر "أومو"، ما تسبّب في غضبٍ كبيرٍ امتدّ مِن كينيا المُجاورة، وهي المُتضرّر الرّئيسيّ مِن السدّ، وصولًا إِلى القاهرة... ولكنّ ذلك كلّه لم يردع أَديس أَبابا وبكين عن مُواصلة تعاونهما الكهرومائيّ، على رغم أَنّ الصّين قد تجنّبت تقديم قروضٍ مُباشرةٍ لتغطية تكاليف إِنشاء "سدّ النّهضة"، خوفًا مِن إِثارة غضب مصر الّتي تمتلك فيها بكين أَيضًا مصالح مُتناميةً. وبدلًا مِن ذلك، تعهّدت الصّين في العام 2013 بتقديم قرضٍ بقيمة 1.2 مليار دولار لتمويل خُطوط الكهرباء والبنية التّحتية المُقرّر أَن تنقل الكهرباء المُولَّدة مِن السدّ إِلى البلدات والمُدن الرّئيسيّة، وعلاوة على ذلك، أَعلنت بكين في نيسان 2019، منح قرضٍ بقيمة 1،8 مليار دولار إِلى حُكومة رئيس الوزراء الجديد آبي أَحمد، خلال الزّيارة الّتي قام بها الأَخير إِلى الصّين بهدف توسيع شبكة الكهرباء في إِثيوبيا، وهو قرضٌ يُعتقد أَن جُزءًا كبيرًا منه قد وُجِّه لاستكمال أَعمال الإِنشاءات وشراء التّوربينات اللازمة لتشغيل السدّ. وفي المُقابل فقد منحت الحكومة الإِثيوبيّة الكثير مِن عُقود السدّ المُربحة إِلى الشّركات الصّينيّة. وخلال النّصف الأَوّل مِن العامّ الماضي وحده، تعاقدت شركة الكهرباء المملوكة للدّولة الإِثيوبيّة، مع "مجموعة جيزوبا" الصّينيّة، وهي شركةٌ هندسيّةٌ مملوكةٌ للدّولة، للمُشاركة في أَعمال الإِنشاءات الخاصّة بالسدّ مقابل 40.1 مليون دولار، وفي الوقت نفسه، تعاقدت الحكومة الإثيوبية مع الفرع الصّينيّ لشركة "فويث هيدرو الأَلمانية" للطّاقة الكهرومائيّة المحدودة، لتوريد التوربينات الثّلاثة الأَخيرة للسدّ مقابل 112 مليون دولار (ورّدت الشّركة بالفعل 13 توربينًا لأَعمال السدّ في عامَين اثنَين فقط).

ولم تكُن الشّركات الصّينيّة وحدها هي مَن نالت نصيبها مِن العُقود المُربحة في سدّ النّهضة، حيث سعت أَديس أَبابا إِلى استجلاب الدّعم الدّوليّ لمشروعها الضّخم مِن خلال منح العُقود للكثير مِن الشّركات الغربيّة المرموقة. وعلى سبيل المثال، عملاق الإِنشاءات الإِيطاليّ "وي بيلد"، ساليني إِمبريجيلو سابقًا، هو مَن يتولّى تنفيذ أَعمال الإِنشاءات الرّئيسيّة لسدّ النّهضة. وقد كانت الشّركة نفسها هي مَن تولّت أَعمال الإنشاءات في سد "جايب 3″، وهي أَيضًا ترتبط بعقدٍ مع الحُكومة الإِثيوبيّة مُنذ العام 2016، لبناء سدّ "كيوشا" على نهر أُومو، فيما كانت تعمل شركة "فويث هيدرو" الأَلمانيّة الشّهيرة، والمُتخصّصة في مجال التّوربينات والمُحرّكات الهيدروليكيّة، على توريد التّوربينات اللازمة للسدّ بالشّراكة مع شركة (أَلستوم) الفرنسيّة، الّتي تعمل هي الأُخرى في مشروعات السدّ بموجب عقدٍ مُشتركٍ مع شركة جنرال إِلكتريك الأَميركيّة العملاقة.

ولا تقف الأُمور عند هذا الحدّ، حيث يُعتقد أَنْ ثمّة عشرات الشّركات الغربيّة الّتي ترتبط بعُقود عملٍ مُتفاوتةٍ في سدّ النّهضة الإِثيوبي، كما وتُشير مصادر إِلى أَنّ كُلّ الدُّول دائمة العُضويّة في مجلس الأَمن، وغيرها مِن الدُّول النّافذة إِقليميًّا ودوليًّا، لديها شركات تعمل في سدّ النّهضة، بما يعني أَنّ هذه الدُّول ستكون -في أَفضل الأَحوال- مُتردّدةً في اتّخاذ أَي موقفٍ مُنحازٍ ضدّ مصالح إِثيوبيا في شأن قضيّة سدّ النّهضة، إِذا ما أُثيرت القضيّة في أيٍّ مِن المُنتديات والمحافل العالميّة، بما في ذلك الأُمم المُتّحدة ومجلس الأَمن، وهذا ما حدث أقلّه لغاية الآن...

إنّها "لعبة" التّهديد بالحرب على المياه، الظّاهرة في أَكثر مِن بلدٍ ومنطقةٍ في العالم... في ظلال المصالح الدّوليّة والتّجاذُبات... الّتي عرفت إِثيوبيا حتّى الآن كيف تستفيد منها، أَقلّه في سدّ النّهضة، وأَوّل الغيث في هذا المجال الاتّجاه شرقًا!...

وفي الواقع، ثمّة الكثير مِن الأَسباب الّتي تدفع الدُّول الغربيّة، وفي مقدّمتها الولايات المُتّحدة، إِلى تجنُّب الانحياز ضدّ إِثيوبيا والوقوف إِلى جانب مصر في قضيّة سدّ النّهضة، على رُغم امتلاك القاهرة المُسوّغات القانونيّة والتّاريخيّة، لعلّ أَقّلها مصالح الشّركات الغربيّة العاملة في أَديس أَبابا، حيث يبدو أَنّ عوامل مثل موقع إِثيوبيا المُميّز في حوض النّيل، وثقلها التّاريخيّ الّذي لا يُمكن إِنكاره، والاستقرار النّسبيّ الّذي تتمتع به بالمُقارنة مع جوارها المُضطرب، والفرص الاقتصاديّة الواعدة الّتي تُقدِّمها، ومكانتها كقاعدةٍ مُحتملةٍ للنُّفوذ الصّينيّ في شرق أَفريقيا، قد وضعت أَديس أبابا في موقعٍ مُماثلٍ لموقف القاهرة إِبّان حقبة الحرب الباردة، حيث تتبارى القوى المُتنافسة لكسب صداقتها.