يُطِلُّ عَلينا يومُ الجُمعةِ المُقبِلُ في ٢٤ أيلول بنافذةٍ ملكوتيّة تذكّرنا بسببِ وجودنا في هذه الحياة، إذ نُقيمُ تَذكارَ قِدِّيسَين كَبيرَين، القِدّيسَةِ تقلا أُولى الشَّهيداتِ والمُعادِلَةِ الرسُل (القرن الأوّل)، والقِدّيسِ سلوانَ الآثوسي البَارّ(١٨٦٦-١٩٣٨م).

مِيزَةُ هذهِ الذِّكرى المُزدَوجَةِ أنَّ القِدِّيسَينَ مِن زَمنَين مُختَلِفَين، ومِن جُغرافِيّتَين مُختلِفَتَين. هي مِن مَدينةِ إيقونية في آسيا الصُّغرى، وهُو مِن رُوسيّا، إلّا أنَّ البُعدَ الزَّمنيّ والمَسافَةَ الجُغرافِيّةَ يَجمَعُهما واحِدٌ، "هو"، "الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ"(رؤيا ٨:١).

كِلا القِدّيسَين جَاهدَ على طريقَتِه، ولكن بِجَوهرٍ واحدٍ ولِهدفٍ واحِد؛ فإيمانُهُما واحِدٌ، وعِشقُهما واحِد، وإلهُهُما واحدٌ، وإنجيلُهما واحِد، وتَسبيحُهما واحِد، وصَلاتُهما واحِدة، وعَقيدَتُهما واحدة.

وهذا ما نُسمِّيهِ "التَّسليم الشَّريف" المَحفوظَ بالرُّوحِ القُدُسِ مِن جيلٍ إلى جيل، وقد تسلَّمناهُ مِنَ الرُّسُلِ الّذينَ عاشُوهُ معَ الرَّبِّ ونَقلُوهُ إلى الآباءِ القِدِّيسِين، ومُستَمِرٌّ في الكَنيسةِ، الّتي مَهما عَظُمَت المآسي حولَها، وكثُرَتِ الصِّعابُ الدّاخليّةُ والخارِجيَّة، لا تَقوى أبوابُ الجحيم عَليها، لِكَونِها مُؤسَّسةً على الصَّخرةِ الّتي هِيَ المَسيح.

ولا نَنسى أنَّ أمامَ كُلِّ تَقاعُسٍ بَشريّ، مِن تَبشيرٍ ومَحبَّةٍ واحتِضان، تَظهرُ هذه الآيَةُ الّتي قالَها الرَّبُّ لليَهود عِندما أرادُوا قَتلَه: "أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ"(يوحنا ١٧:٥).

الجَمالُ في اللّاهُوتِ أنَّهُ لُغَةُ الله، وهَذا مَعنى كلمة théologie أي كلامِ الله وفِعلِه غير المُنفَصِلَين عنه، لا يَحدُّهما زمانٌ ولا مكان، وهما طريق خَلاص الإنسانِ إن عَمِلَ بهما وعاشَ بِمُوجَبِهما. وخَيرُ دليلٍ على ذلك القِدّيسون في الماضي والحاضر والمستقبل.

والقِدّيسُونَ في الكَنيسةِ مِثالٌ حيٌّ لَنا، هُم تَعلَّموا مِن آباءٍ رُوحيّينَ، ونحنُ نَتعلَّمُ مِنهم، وسِيرَتُهم تَحمِلُ لنا الكَثيرَ مِن النِعَم المُخلِّصة والعِبَرِ الهادية والأمثِلَة المُعَزيَّة، كما هي شَهادَةٌ مَلموسةٌ على أنَّ الإنجيلَ يُعاش، وهُو لَيسَ أمرًا مُستَحيلًا أو صَعبَ المَنال، ولا هو أدبٌ نقرأه ونستَلِذُّ بِهِ فقط، أو مُناظَراتٌ ومُباراةٌ بِالمَعرِفَة الفِكريَّةِ، أو مقالاتٌ وكتبٌ ومؤلّفاتٌ وعظاتٌ ومحاضراتٌ وشهاداتٌ دُونَ العَيشِ والصَّلاةِ والجِهادِ والتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ وتَغييرِ الذِّهن.

لِنبدأ أوّلًا معَ القِدّيسةِ تقلا الّتي قالت: "وَحدَهُ الرَّبُّ يسوعُ المَسيحُ الطَّريقُ والحَقُّ والحَياةُ وخَلاصُ النُّفوس"، وقد كَرَّست ذَاتَها بِالكُليَّةِ لإلهِها.

وهذا مَعنى كَلمةِ قِدّيس أو قِدّيسة الّتي تَأتي مِنَ العِبريَّةِ، وتَعني التَّكريسَ والتَّخصيصَ والفَرز. والأمرُ غيرُ مَحصورٍ طَبعًا بِالرُّهبان والرَّاهِباتِ والكَهَنة، بل هُوَ لِكُلِّ واحِدٍ مِنّا: إكليروسًا وشَعبًا، إذ خَاطَبنا اللهُ قائِلًا "وَتَكُونُونَ لِي قِدِّيسِينَ لأَنِّي قُدُّوسٌ أَنَا الرَّبُّ"(لاويين ٢٦:٢٠).

لِهذا نَدخُلُ جُرنَ المَعمُودِيَّةِ أطفَالًا لِنَخرُجَ مِنهُ خَليقَةً جَدِيدَةً، ومِن ثَمَّ نُمسَحُ بِالمَيرُونِ المُقَدَّسِ ونَتناوَلُ القُدُساتِ بَعدَ أن يَكونَ أهلُنا وعرَّابِينا سارُوا فِينا في زِيَّاحٍ حامِلينَ الشُّموعَ خَلفَ الكاهِنِ، ويَكونُ جَرسُ الكَنيسَةِ يُقرَعُ إعلانًا أنَّ السَّمواتِ مفتوحَةٌ والمَلائِكَةَ تَفرَحُ وتَتَهلَّلُ بالابنِ أو الابنَةِ الجَديدِ/ة لِيَسوع. فتَبدأُ حَياتُنا شيئًا فشيئًا، ونَختارُ نحنُ مَعَ مَن نسيرُ دربَنا، أمع النُّورِ أم مع الظَّلام.

وبِالعَودَةِ إلى القِدّيسينَ، لا بُدَّ لَنا أن نَقولَ إنَّ المُؤمِنِينَ يَتفاعَلُونَ مَعَهم، ويَمتَدُّونَ تُجاهَهُم بِجوانِبَ عَديدَة، فبِالإضافَةِ إلى سِيرَةِ حَياتِهم، نَراهُم حَاضِرينَ في العَقِيدَةِ والليتُورجِيا والخِدَمِ والصَّلواتِ والفَنِّ الكَنسيّ. لِهذا نرى القِدّيسَةَ تقلا، قد احتَلَّت مَكانًا مَرمُوقًا في حَياةِ المُؤمِنينَ مُنذُ البِداية.

وهُناكَ وَثيقَةٌ مِنَ القَرنِ الثّاني مِيلاديّ، مَعروفَةٌ باسم "أعمالُ بولس وتقلا"، تَشرحُ تَعلُّقَ تقلا بِتَعالِيمِ بُولُسَ الرَّسولِ وتَطويباتٍ مَنسُوبةٍ له، تَدعو إلى عَيشِ الزُّهدِ واكتِسابِ المَلكُوت. وتَذكُرُ أنَّ القِدّيسةَ بَقِيت ثَلاثةَ أيَّامٍ تُصغي مِن نافِذَتِها إلى كَلامِ بُولُسَ، وهُو يَكرِزُ ويُعلِّمُ في مِنطقَتِها.

​​​​​​​وسُرعانَ ما تَركَت تقلا كُلَّ شيءٍ وتَبِعَتِ المَسيحَ، ومَنَّ عليها الرَّبُّ بِمَوهِبَةِ شِفاءِ المَرضى. وقد هَدَت كَثيرينَ إلى نُورِ الإنجِيلِ فحارَبتْها شَياطينُ الظُّلمةِ، ولاقَت أَشدَّ العَذابَاتِ، ولكِنَّها في النِّهايَةِ انتَصَرت بِقُوّةِ المَسيح. وقد تحدَّثَ عنها كِبارُ الآباءِ مادِحينَ جِهادَها وسِيرَتَها الفاضِلة، فأصبَحَت قُدوةً لكَثيرٍ مِنَ النِّساء.

تقلا مَعرُوفَةٌ جدًّا في بِلادِنا وبِالأخَصِّ في مَعلولا في سُوريّة، حَيثُ يُوجَد دَيرٌ على اسمِها، ويُقالُ إنّها أَمضَت بَاقِي سنينَ حَياتِها هُناكَ إلى عُمرِ التّسعينَ. ولَها أيضًا ٤٢ كنيسةً على اسمِها في لبنان.

وقد عَمَّت سِيرتُها المَسكُونة، فيُحكى عن مَقامٍ وقبرٍ باسمِها مَشهورَين في مِنطَقَةِ Seleucia في أسيا (تركيا)، حيث أمضى القِدّيسُ غريغوريوس النزينزي (٣٢٠-٣٩٠م) في المقامِ حوالي ثلاثِ سنوات، وأتتِ الرَّحالَةُ إيجيريا (٣٨٠م) على ذكر هذا المَكانِ أيضًا.

كما يُوجَدُ ديرٌ على اسمِها في لارنَكا – قبرص، أسَّسته الإمبرَاطُورةُ هيلانة (القرن الرابع). وأُكتُشِفَت في كنيسَةِ القِدّيس مينا في قبرص أيضًا في بِداياتِ القرنِ العِشرين كتابَةٌ عنها، تَعودُ إلى النِّصفِ الثَّاني مِنَ القرنِ الأوّل، بِحيثُ كانَت هَذه الكَنيسَةُ مَحجَّةً يأخذُ مِنها الحُجّاجُ قَواريرَ نُقِشَ عليها رَسمُ القِدّيسِ ميناس مِن جهة، والقِدّيسةِ تقلا مِنَ الجِهَةِ الثّانية.

وفي العام ١٩٩٥م تمَّ في أفسُس اكتِشاف مَغارَةٌ قَديمةٌ جدًّا، مِن بِداياتِ المَسيحيَّةِ، ومعروفَةٌ باسمِ "القِدّيس بولس"، إذ تُوجَدُ فيها جِداريَّةٌ مِنَ القرن ٥/٦ للقِدّيسِ بُولسَ يُلقي خِطابًا، والقِدّيسَةِ تقلا تُطِلُّ مِن النَّافِذَةِ مُصغِيةً إليه، ووالدتِها التي قالت أحرِقُوا هذا الشرّيرَ، وقد عنَت بِكلامِها بُولسَ الرَّسول لأنّها كانت مُلحِدة وتريدُ تزويجَ ابنتها مِن شخصٍ مرموق.

كذلك يُوجَدُ في دَياميسَ روما مَقبرةٌ على اسمِها اكتُشِفَت فيها في العام ٢٠١٠م جِدارِيَّةٌ للقِدّيسِ بُولُسَ الرَّسولِ تَعودُ إلى القَرنِ الرَّابع ميلادي، ويُعتقد أنَّها مِن أقدَمِ التَّصاوِيرِ لِبولس.

​​​​​​​وبالرَّغم مِن بعضِ التّباين في الرّواياتِ عن تَفاصِيلِ سِيرتِها، تَبقى القِدّيسةُ تقلا عامودَ قَداسةٍ في الكَنيسَةِ على مَدى الأزمان، لِدرجةٍ أّنّها تُعتَبَرُ اليومَ شفيعَةَ الإنترنت في البلاد التي تتكلَّمُ اللغة الكتالانيّة Catalan في أسبانيا وغيرِها، وذلك لِتَشابُهِ اسمِها مَعَ كَلِمَةِ مِفتاح في هَذِهِ اللُّغة.

أمّا فيما يَخُصُّ القِدّيسَ سلوان الآثوسي، وباختصارٍ شديدٍ، فَهُوَ راهبٌ مِن جبلِ آثُوسَ، أُشتُهِرَ بالصَّلاةِ الهُدوئيَّةِ، وتفوُّقِهِ بِالفَضيلَةِ والمَحبَّةِ، وكان بِالفعل إناءً يَنضَحُ بِالرُّوحِ القُدُس.

ومعروفٌ عنّه أنّه مرَّ بِمرحَلَةٍ شَديدةِ الصُّعُوبَةِ لازَمتْهُ خَمسةَ عشرَ عامًا، لم يتخلَّ فيها لحظةً واحِدةً عن ثِقَتِه بالله، وصَلاتِهِ وجِهادهِ الرُّوحيّ، إلى أن نالَ في نِهايةِ المَطافِ تَعزيةً مِنَ الرَّبِّ كانت أشهى مِنَ العَسلِ، إذ قالَ له يَسوع: "احفَظ نفسَكَ في الجحيم ولا تيأس". وهذا قولٌ يَنفَعُنا جميعًا.

وقد حَذَّرَ قِدِّيسُنا مِنَ الكِبرياءِ الّتي هي جَذرُ كُلِّ الخَطايا، وأَكَّدَ بِأنَّهُ لا يُمكِنُ بُلوغُ اللهِ إلّا بِالتَّواضُع. وكان دائمًا يُرَدِّدُ "أخونا هوَ حَياتُنا"، لأنَّه مِن خِلالِ علاقَتِنا بالآخَرينَ تَنكَشِفُ حقيقةُ محبَّتِنا وصِدقيَّتُها.

إلى الرًّب نَطلُب.

​​​​​​​