يولي المُراقبون لملفّ المياه في القارّة السّوداء، أَهميّةً كُبرى لخُطوة إِعلان الولايات المُتّحدة في آذار الماضي، أَنّها "مُستعدّةٌ لاستثمار 5 مليارات دولارٍ في إِثيوبيا من خلال مُؤسّسةٍ تنمويّةٍ جديدةٍ أُنشئت أَواخر العام 2020، تحت اسم "مُؤَسّسة تمويل التّنمية الدّوليّة" (DFC) وهي تتمتّع بقُدرة إِقراضٍ ضخمةٍ تُقدَّر بـ60 مليار دولار، وقد أُنشِئت المُؤسّسة الجديدة بالأَساس لتحلّ محلّ المُؤسّسة الأَميركيّة للتّمويل الخاصّ الخارجيّ (OPIC)، على أَن تكون أَنشطتها التّمويليّة مُوجَّهةً لخدمة المصالح السّياسيّة للولايات المُتّحدة، وعلى رأسها مُواجهة النُّفوذ الصّينيّ الكبير في الدُّول النّامية، وفي شكلٍ خاصٍّ في أَفريقيا، ما يُؤشّر تاليًا، إِلى أَنّ المسائل التّنمويّة، وتحديدًا في مجال المياه، تُشكّل "حلبة صراعٍ" بين الولايات المُتّحدة الأَميركيّة والصّين.

وقبل ذلك بشهرٍ واحدٍ، أَطلّ وزير الخارجيّة الأَميركيّة مايك بومبيو على وسائل الإِعلام مِن العاصمة الإِثيوبيّة أديس أبابا، مُؤكّدًا أَنّ الولايات المُتّحدة جاءت اليوم لتُقدِّم "فُرصًا استثماريّةً حقيقيّةً وجذّابةً"، على النّقيض مِن الدُّول الاستبداديّة الّتي جاءت "بوعودٍ فارغةٍ وشجّعت الفساد والتّبعيّة" في إِشارةٍ واضحةٍ إِلى الصّين. وفي تلك اللحظة، كانت واشنطن قد برهنت فعلًا لأَديس أَبابا أَنّها على استعدادٍ للوفاء بوعودها، بعدما منحت الضّوء الأَخضر لصُندوق النّقد الدّوليّ، نهاية 2019، لتقديم قرضٍ بقيمة 2،9 مليار دولار إِلى إِثيوبيا، بهدف إِعادة التّوازُن إِلى ميزان المدفوعات في البلاد وتمويل "أَجندة التّحرير الاقتصاديّ".

ولقد كانت هذه المُساعدات والاستثمارات الأَميركيّة والدّوليّة أَكثر بكثيرٍ مما تحتاج إِليه أَديس أَبابا راهنًا، وعلى رُغم أَنّ أَيًّا منها لم يكُن مُوجَّهًا لتمويل "سدّ النّهضة"، في شكلٍ مُباشر، فإِنّ هذه الأَموال مُنحت قُبلة الحياة الأَبديّة للحُلم الإِثيوبي في إَتمام السدّ المذكور... وفي الوقت نفسه قدَّمت إِشاراتٍ واضحةً إِلى أَنّ الدّعم الّذي تحظى به أَديس أَبابا في الأَوساط الغربيّة اليوم، بات قادرًا على مُعادلة النُّفوذ التّاريخيّ لمصر. وقد كان هذا على الأَرجح، هو السّبب الرّئيسيّ في أَنّ إِثيوبيا تبنّت خطابًا وصف بأنّه "عدوانيٌّ" و"هُجوميٌّ" ضدّ مصر، خلال الأَشهر الأَخيرة. وقد أكّدت إِثيوبيا، أَنّها ستمضي قُدمًا في خططها لملء السدّ وتشغيله، سواء توصّلت إِلى اتّفاقٍ مع القاهرة أَم لا.

وفي المُقابل، يبدو أَنّ مصر باتت تُدرك في وضوحٍ هذا التحوُّل في ميزان القوى في منطقة حوض النّيل وشرق أَفريقيا: ففي حين أَنّ واشنطن بدت مُنحازةً ظاهريًّا إِلى مواقف مصر، وبخاصّةٍ مُنذ رفضت إِثيوبيا توقيع اتّفاقٍ برعايةٍ أَميركيّةٍ، وتركت مصر تُوقِّع عليه مُنفردةً بالأَحرف الأُولى، أَشارت المصادر الصّحافيّة إِلى أَنّ مصر تشعُر أَنّ واشنطن قد خذلتها وأَنّها لم تفعل ما يكفي لإِجبار أَديس أبابا على تقديم تنازُلات في شأن "قضيّة سدّ النّهضة"، ناهيك بكون واشنطن قد رفضت استخدام ثقلها الاقتصاديّ للضّغط على أَديس أَبابا لاستكمال المُفاوضات.

ولم تكُن واشنطن وحدها هي مَن خذلت مصر على ما يبدو، إِذ رفضت الصّين -أَحدى الدّول الصّديقات للرّئيس المصريّ عبد الفتّاح السّيسي، طلبًا مُماثلًا مِن القاهرة، ولم تُمارس أَيّ ضغطٍ على إِثيوبيا في قضيّة السدّ. لا بل إِنّ المملكة العربيّة السّعوديّة ودولة الإِمارات العربيّة المُتّحدة، أَبرز حلفاء النّظام المصريّ، تجاهلا المُناشدات المُستمرّة للقاهرة لتعليق استثمارتهما في إِثيوبيا (نحو 7 مليارات دولار) مِن أَجل تحسين موقف مصر التّفاوضي في القضيّة. لا بل على العكس من ذلك، فقد استثمرت كلٌّ مِن الرّياض وأَبو ظبي في تعزيز علاقاتهما مع أَديس أَبابا، حيث رعت العاصمتان اتّفاق مُصالحةٍ تاريخيٍّ بين إثيوبيا وإِريتريا، كان هو السّبب الرّئيسيّ في حُصول رئيس الوزراء الإِثيوبي آبي أَحمد على "جائزة نوبل للسّلام"، في الوقت الّذي قدّمت الإِمارات مبلغ 3 مليارات دولار في صورة ودائع واستثماراتٍ في إِثيوبيا، وقدّمت السّعوديّة 140 مليون دولار كقروضٍ لإِقامة مشروعاتٍ للطّاقة الشّمسيّة.

إِنّ كُلّ هذه الوقائع... إِنّما تستنهض الهواجس المصريّة حيال قصّة الملك الإِثيوبيّ دويت الثّاني، الّذي هدّد سلاطنة المماليك في مطلع القرن الخامس عشر بحجز مياه النّيل عنهم... وتُبقي فتيلًا مائيًّا مُشتعلًا في القارّة السّوداء... قد ينفجر في أَيّ لحظةٍ، حربًا مائيّةً ضروسًا!.