على طريقة "النأي بالنفس"، المعادلة "الذهبيّة" التي يتغنّى بأنه كان من "ابتكرها" قبل سنوات، حاول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أن يتعامل مع قضيّة بواخر الوقود الإيراني، التي بدأت بالوصول إلى لبنان الخميس الماضي، بإشراف مباشر من "حزب الله"، في مسعى "فرديّ" منه للتخفيف من حدّة أزمة المحروقات في البلاد.

ولأنّ الموضوع مرتبط بإيران، التي ينقسم حولها اللبنانيون، بين من ينتمي إلى "محورها"، ويرى فيها "دولة صديقة" لا تريد سوى الخير للبنانيين، ومن يتوجّس في المقابل من أيّ خطوةٍ تُقدِم عليها، وما قد تنطوي عليه من "توريط" للبنان في "حروب" لا ناقة له فيها ولا جمل، كان من البديهي أن تثير الخطوة انقسامًا عموديًا في الداخل.

من هنا، وجد ميقاتي مرّة أخرى أنّ الوقوف في منطقة "الوسط" قد يكون "الحلّ المثاليّ"، فكان موقفه "المبدئيّ" عدم المبالغة في "التهليل" للبواخر الإيرانية الآتية، بما قد "يُغضِب" كثيرين ممّن يسعى الرجل لكسب ودّهم، لإنجاح حكومته بالتي هي أحسن، وفي الوقت نفسه، عدم الوقوف في صفّ "المواجهة"، من دون وجود "بدائل" يقدّمها للشعب.

وإذا كان ميقاتي حاول أن "يحيّد" نفسه عن هذه القضية بعد تأليف الحكومة، وحتى بعد بدء البواخر بالوصول الخميس الماضي، فإنّ موقفه بدأ يتبدّل شيئًا فشيئًا، ولعلّ ذروة هذا التغيّر، الذي وصفه البعض بـ"الانقلاب"، تمثّل بـ"حزنه" على ما وصفه بـ"انتهاك سيادة لبنان"، في حديثه ذي الرمزيّة العالية، من حيث الشكل قبل المضمون، إلى شبكة "سي أن أن" الأميركيّة.

استمرّ "الإحراج" مع ما سُرّب من كلام "غير دقيق" نُسِب للمتحدّث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده يقول فيه إنّ السلطات اللبنانية هي التي طلبت الوقود الإيراني، وهو ما تبيّن لاحقًا أنّه لا يعكس حقيقة ما قاله، وهو الذي تحدّث عن "عملية شراء عادية" بين إيران وبعض التجار، متعهّدًا في الوقت نفسه بتلبية أيّ طلب توجّهه الحكومة اللبنانية "على الفور".

لكن، قبل اتّضاح حقيقة الموقف الإيراني وملابساته، كان ردّ ميقاتي حاضرًا، من خلال "مصادر" اكتسبت صفة أكثر من رسميّة، بعدما تولّى مكتبه الإعلامي تسريبها بشكل مباشر، وفيها نفي واضح وصريح لفكرة أن تكون الحكومة اللبنانية قد طلبت أيّ وقود من الجمهورية الإسلامية، خلافًا لبعض التسريبات والأخبار.

بالنسبة إلى العارفين والمُتابعين، فإنّ ميقاتي "لا يُحسَد" على الموقف الذي وُضِع فيه، وهو المحبّذ لمعادلة "النأي بالنفس"، إذ إنّه وجد نفسه مُحرَجًا، بل مُحاصَرًا من كلّ الجهات، فهو لا يريد أن يظهر أمام الشعب اللبناني كمن يرفض مساعدة قد تكون قيّمة في الظروف التي يعيشونها، وفي الوقت نفسه لا يريد إغضاب "أصدقاء لبنان" وشركائه.

ولعلّ ما زاد الطين بلّة أنّ الرجل يدرك أنّ الكثير من القوى والدول لم تتّخذ حتى الآن موقفًا من حكومته، وهي أوحت بأنّها تنتظر "الأداء" لتحكم عليه، وبالتالي فإنّ أيّ "زلّة" يمكن أن يقدم عليها، في ظلّ "الحرب المفتوحة" بين الغرب وإيران، قد لا تكون محمودة، بل إنّ عواقبها ستكون بلا شكّ وخيمة، وأكبر من قدرته على التحمّل.

ومع أنّ ميقاتي كان قد "ضمن" حصول حكومته على ثقة مجلس النواب، حتّى قبل انعقاد الجلسة، إلا أنّه كان يدرك أنّ "الثقة" التي ينشدها هي مزدوجة، وقد لا يكون للبرلمان أيّ "قيمة" على خطّها، بل هي "ثقة" المواطنين بالدرجة الأولى، الذين يريدون "التفاؤل" بحكومة تضع كلّ الخلافات السياسية جانبًا، لصالح "حلحلة" الوضع الاجتماعي والمعيشي "الكارثي".

وتأتي في الدرجة الثانية "ثقة" المجتمعين العربي والدولي، وهي "ثقة" لا تقلّ أهمية عن الأولى، بل لعلّها تفضي إليها، باعتبار أنّها "المفتاح" الذي يتمسّك به رئيس الحكومة لتطبيق "خريطة الطريق" الحكومية، لأنّ أيّ إصلاحات أو تغييرات لن تبصر النور، من دون مساعدة المجتمع الدولي، الذي يصرّ على أنّ دعمه لن يكون "مجانيًا" بأيّ شكلٍ من الأشكال.

لكن، بموازاة كلّ ما سبق، ثمّة من يعتقد أنّ موقف ميقاتي سيبقى محصورًا في الإطار الإعلاميّ والكلاميّ، الذي يتفهّمه "حزب الله"، بل ربما "يباركه" بشكل أو بآخر، فهو يفيد في "طمأنة" المجتمع الدولي، وبالتالي "تجنيب" لبنان مأزق "تجرّع" كأس العقوبات، التي كان يمكن أن تصبح "حتميّة"، لو ثبُت أنّ الدولة هي التي طلبت المساعدة الإيرانية.

لكن يُستبعَد أن يكون لكلام الرجل عن "انتهاك السيادة" وغيره أيّ تبعات سياسية أو قانونية أو غيرها، علمًا أنّ الأمور سلكت طريقها، فالبواخر أصبحت داخل لبنان، و"الزوبعة" التي أثارتها لم تخرج عن السيطرة، من دون أن يُرصَد أيّ تهويل بعقوبات أو ما شابه، ربما لأنّ القضية برمّتها تبقى "تفصيلاً" مقارنة مع المُنتظَر من الحكومة.

لعلّ "النأي بالنفس" سيشكّل، استنادًا إلى ما تقدّم، "وصفة مثالية" مرّة أخرى لميقاتي للخروج من "المأزق والإحراج" بأقلّ الأضرار الممكنة، لكنّه بالتأكيد لن ينفع كاستراتيجية كاملة متكاملة في المرحلة المقبلة، لأنّ اللبنانيين ينتظرون من الحكومة قرارات جريئة وشجاعة ومسؤولة، أبعد ما تكون عن الهروب من المسؤوليات، مهما كبرت وتعاظمت!.