لم يهدأ يوماً رؤساء الاحزاب والتيارات السياسية اللبنانية في اعلاء الصوت من اجل تشكيل الحكومة، وارادوها اولاً حكومة اخصائيين ومستقلين لا تبعة لها لاحد، ولكن مع مرور الوقت وتداخل المشاكل، تحوّل هؤلاء الى المطالبة بحكومة قادرة على التصرف لان الوضع لم يعد يحتمل، ولم يعد من الشروط الاساسية ان تتضمن وزراء مستقلين، بل اصبح الاهم قدرتها على العمل لوقف الانهيار واعادة لبنان الى خارطة الاعتراف الدولي. وبعد تدخلات خارجية مهمة، ابصرت الحكومة النور، باعتراف من رئيسها نجيب ميقاتي (منذ ان تم تكليفه) بأنه حصل على ضمانات خارجية -وبالطبع لم يقصد بها ايران- بأن العقبات ستزال من درب التشكيل، وبأن الطريق امام الحكومة ستكون معبّدة لاجراء المفاوضات المطلوبة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرهما من المنظمات والدول.

صدقت الاقوال الخارجية هذه المرة، وبالفعل تم تذليل العقبات الداخلية من امام التشكيل، وولدت الحكومة من رحم المفاوضات والتفاهمات الخارجية ومن بينها التفاهم الفرنسي-الايراني، ولكن ما ان نالت الحكومة الثقة، حتى بدأ الحديث عن انها حكومة ايرانية يسيطر عليها حزب الله ويتحكم بقراراتها كما يريد. هنا، لا بد من الاشارة الى واقع لا يمكن لاحد ان ينكره، وهو ان الحزب صاحب كلمة اساسية في لبنان (بغض النظر عن الموقف من قراراته ورؤيته السياسية)، واثبت ذلك في اكثر من مناسبة، وهو قادر على فرض رأيه في الكثير من الامور بقدرة القوة او التفاهم او الاثنين معاً. ولكن، ان يقال ان الحكومة ايرانية الهوى، ففي الامر مبالغة، لا بل استخفاف بعقول الناس. فلو كانت الحكومة ايرانية بالفعل، لماذا كانت الضمانات من فرنسا والولايات المتحدة وفق ما صدر على لسان ميقاتي شخصياً؟ ولماذا كانت التحركات الفرنسيّة ناشطة على اكثر من جبهة لتأمين المخارج اللازمة للتشكيل؟ ولماذا قبلت باريس بتقويض مباردتها والغاء بنود اساسية منها كي تنجح مساعي الحكومة؟ ولماذا تهافت الغرب للقول انه جاهز لتسهيل مسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وتأمين ما يلزم من مقومات النجاح لوضع الحكومة على السكة الصحيحة لاتخاذ القرارات المطلوبة لوقف الانهيار؟ ولماذا حصلت الحكومة على ثقة نواب تيارات حزبية ينتمون الى مختلف الانتماءات السياسية؟.

لا شك ان اتهام الحكومة ليست مثالية، ولا هي وفق تطلعات ورغبة قلة من اللبنانيين لا ينتمون الى احزاب وتيارات سياسية ولا يهمهم سوى احداث "انقلاب" حقيقي في طريقة التفكير والتعاطي مع مفهوم الدولة، ولكن من غير المنطقي اتهامها بأنها ايرانيّة، وهي التي تحمل مهمة وحيدة وهي الموافقة على الشروط التي ستعطى لها من قبل المنظّمات الماليّة الدوليّة. ومن نافل القول ان مصالح البعض في الداخل اللبناني ستلزم افرقاء على القول أنّ ايران هي التي عرقلت وتعرقل، وذلك لمصالح انتخابيّة فقط لا غير، وفي سبيل استقطاب وشد عصب الشارع المعني (من الناحيتين الطائفية والسياسية). وفيما يمكن الاعتراف بأن لايران مصالح يمكن ان تعرقل بعض المساعي، فإنه صحيح ايضاً ان الخلافات بين الدول الغربية يمكن ان تكون عقبة حقيقية امام البرنامج الموضوع، وقد شهدنا كيف انهارت مبادرة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون التي اطلقها من بيروت، بفعل التجاذبات مع الولايات المتحدة، وربما لو كانت مشكلة الغواصات الأوسترالية حاضرة قبل اسابيع، لكنا امام عرقلة اضافية للحكومة، ولكانت الولادة قد تأخّرت مجدّداً الى حين انقشاع الغبار عن العلاقة بين باريس وواشنطن، والتي يرغب الاثنان في ان تكون طيبة وناجحة، ولذلك يرجّح الا تطول فترة "التباعد" بينهما، والا تلقي بنتائجها على الحكومة اللبنانيّة وخريطة الطريق الموضوعة لها من قبل الغرب لبدء الخروج من هذه الازمة، وبالتفاهم مع دول عدة ومنها ايران.