يُلخّص عالِم الاجتماع الفرنسي المعاصر Frédéric Lenoir مَسيرةَ الإنسانِ بسعيٍ دائمٍ للانتقالِ مِن حالةِ اللاوعي إلى حالةِ الوعي، ومِن الخوفِ إلى المَحبّة. ويُكمِل بأن معتقداتِنا المحدودةَ ومشاعرَنا وظُروفَنا، بالإضافة إلى مُحيطِنا تُشَكِّلُ عائقًا يَمنعنا مِن اكتشاف حقيقةِ طبيعتنا وبلوغِ رغباتنا العميقة. ويَطرحُ فريدريك السؤال التالي: ماذا يحدث لو أنَّنا اكتشفنا طبيعتنا الحقيقيّة؟.

ونحن سنسأل بدورنا: هل حقًا لا جوابَ عِندَنا؟.

العجيب أنَّ هذه الأسئلةَ ما زالت تُطرَح إلى اليوم، وتبحثُ عن حقيقةِ طبيعةِ الإنسانِ ومقصدِ وجودِه: مِن أين أتى؟ وإلى أين سيذهب؟ وكيف يقتني السَّلامَ الدّاخلي والطُّمأنينةَ وكيفَ يَمتلئُ بالمحبّة؟ العجب بأنَّ الجوابَ أتانا منذ أكثر مِن ألفَي سنةٍ، وأنَّ قوافلَ القِدّيسين شَهِدت للنُّورِ الإلهيّ الذي أشرق على البشريّةِ جَمعاء!.

وهذا يُذَكِّرُني بِقِصّةِ النَّسر الذي وُضِعَ مِن صِغَرِهِ خطأً معَ البَطّ، وكان يَعتقد نفسَه بَطّة، إلى أن وقعَ ذاتَ يومٍ في بُحيرةٍ وخافَ أن يَغرَقَ ويموت، ولكن سرعانَ ما شاهدَ انعكاسَ وجهِه على المياه، ورأى أنَّ له جَناحين كبيرَين، فأدركَ حينَها أنّه ليسَ بطةً كما كان يَعتقد نَفسَه، وأنَّ فرصَتَه في النجاةِ بَين يدَيه، وأنَّ السَّموات تنتظِرُه ليُحلِّق فيها، فزالَ الخوفُ مِن قلبِه على الفورِ، وانطلَقَ بكُلِّ ثِقةٍ وبلا تَردُّد إلى العُلى، حُرًّا وحَيًّا.

وفيما هو يُحلّقُ عاليًا، تذكَّر كيفَ كان سابقًا يُحدِّقُ في السَّماءِ، وفي أعماقِ نفسِه شعورٌ يُلازِمُهُ بأنَّ مَوطِنَه فوقُ وليسَ التُّراب. وها هو يُحلّقُ، لِذَلِكَ بدأ يُطلِقُ صيحاتِ الفرحٍ والابتِهاجٍ، ويُقولُ لِكلًّ الّذين على الأرض: إبحَثُوا في أعماقِ نُفوسِكم، نَحنُ كلُّنا نُسور.

وقد أتينَا على ذِكرِ هذا كُلِّه لأنَّ يومَ غَدٍ تُقيمُ الكنيسةُ تَذكار انتقال القدّيس يوحنّا الإنجيليّ الملقّب بالنَسر، وذلك لِكونِه حَلَّقَ في اللّاهوت. وهذا هو سببُ وجودِ النَسْرَ في أيقوناتٍ لَه. فهو كَتَبَ عن العِلاقَةِ الجَوهَريّة بين الآبِ والابن بإسهابٍ وعُمقٍ كَبيرَين. كما له عيد ثانٍ في الثامنِ مِن شهرِ أيّار.

هذا وقد أُعطِيَ كلٌّ مِن الإنجيليين الأربعة، منذ البداية، رَمزًا، فَنَجِد عندَ القدّيس إيريناوس أسقف ليون(١١٥-٢٠٢م) لقب الملاك–الإنسان لمتّى، وذلك لأنّه اجتهد في إعلان نسبِ العذراءِ مريمَ، التي أخذ منها الرّبُّ يسوعُ المسيح جسدًا، كما أنّ يسوعَ يظهرُ في إنجيلِه صَديقًا للإنسانِ المُحتاجِ إلى الخلاص. وأُعطي رمزُ الأسد لإنجيلِ مرقس، لأنّه يبدأ بصُراخِ القدّيس يوحنّا المعمدان، كَزَئيرِ الأسدِ في وَسطِ بَريّةِ هذا العالم: "صوتُ صارخٍ في البريّة: أعدّوا طريق الرّبّ، إصنعوا سُبُلَهُ مستقيمة"(مر ١:٣)، ورمزُ الثَّورِ (العجل) لإنجيلِ لوقا، إذ يبدأ إنجيلَه أيضًا بِتَقدِمَةِ الذَّبيحَةِ للرَّب مِن قِبَلِ زَكريّا الشَّيخ، وهي صورَةٌ مسبَقةٌ للمسيحِ الذي قدَّمَ نفسَه فِديةً عن البَشَر، والنَّسرُ لإنجيلِ يُوحنّا، كما ذكرنا أعلاه.

لم تأتِ هذه الرموز مِن لا شيء، بل هي موجودةٌ في الكتابِ المُقدَّسِ في سِفرَين. الأوّلُ في العَهدِ القديمِ عند حزقيال النبيّ في الإصحاح الأوَّل، والثّاني في سِفرِ الرُّؤيا(رؤيا ٤:٦-٧).

بِالعَودَةِ إلى "يوحنّا بِنُ زَبَدي، النَّسْرُ اللاهوتيّ"، مَن يَقرأُ إِنجيلَه يُلاحِظُ تَمايُزًا بَينَه وبينَ الأناجيلِ الثلاثَةِ الأُخرى التي لمَتّى ومَرقس وَلوقا، والتي توصَف بالأناجيل الإزائيّة.

فيوحنّا يَأخذُنا في تحليقٍ ملكوتيّ، إذ إنَّ إنجيلَهُ يَسيرُ بِنا معَ السيّد إلى الصليبِ فَالقِيامة، ويُضيءُ لنا بأنَّ الربَّ يسوعَ المسيحَ كلمةُ الله الحيّ، وهُوَ الحَمَلُ الذَّبيحُ لِخلاصِنا.

هذا التمايزُ في إنجيله جَعلَه يُلَقَّبُ باللّاهوتيّ. وقد أُعطِيَ هذا اللَّقبُ في الكنيسةِ الأرثوذكسيّة لثَلاثةِ أشخاصٍ فقط، وهُم القدّيسون: يوحنّا الرسول (القرن الأوّل)، وغريغوريوس النزينزي (٣٢٩-٣٩٠م)، وسمعان اللّاهوتي الحديث (٩٤٩-١٠٢٢م). وهذا لا يَنفي طَبعًا وُجودَ قدّيسينَ كِبارٍ في كَنيسَتِنا.

واللّاهوتيّ في الكنيسةِ بحسبِ تعليمِ الآباءِ القدّيسين، هو المُتَكَلّمُ بالإلهيّات، وهوَ المُصَلّي، لأَنَّ اللّاهوتَ نُطقٌ بالروح القُدس.

إلى ذلك، يوحنّا مَعروفٌ أيضًا بالتلميذِ الحَبيبِ كما عَرَّفَ عَن نفسِه في إنجيلِه: "التلميذُ الذي كانَ يسوعَ يُحبُّه"(يوحنّا ٧:٢١)، ولا ننسى بأنَّه صاحب "سفرِ الرؤيا" وثلاثِ رسائل.

الشيء المذهِلُ عند يوحنّا الإنجيليّ، أَنَّه صَيّادٌ وَكَتَبَ أَعمَقَ إنجيل. صحيحٌ أَنَّ الرَبَّ دَعاهُ وَشَقيقَهُ يعقوب، اللّذَين تَرَكا للوَقتِ السفينةَ وأَباهُما وتَبِعاه، إلّا أنّ يوحنّا غَرَفَ بدَورِهِ مِنَ السَيِّد وامتلأ منه.

فهوَ الذي اتّكأ على صَدرِ يَسوعَ في العَشاءِ الأَخير، وهوَ التلميذُ الوَحيدُ الذي كان مَوجودًا بِجانِبِ والدَةِ الإلهِ عندَ الصليب، والذي ائْتَمَنَهُ الرّبُّ عليها.

في الأساس كانَ يوحنّا تلميذًا للقدّيسِ يوحنّا المَعمَدان، وعِندَما تَبِعَ يَسوعَ، لم يُصبحْ واحِدًا مِن تلاميذِهِ الاثنَيْ عَشر فَحَسب(يوحنّا٣٥:١)، بَل أخذَ بَعدَ العنصرةِ مَكانةً هامَّةً في قِيادَةِ الكنيسةِ وَنَشرِ الكَلِمَةِ والحِفاظِ على استقامَتِها. وأُعتُبِرَ عَمودًا مِن أعمدَةِ الكنيسةِ الثلاثةِ معَ بطرسَ ويعقوبَ أخي الربِّ، مع أَنَّه كانَ أَصغَرَ التلاميذِ. مِن هنا نُشاهدُهُ شابًا في كثيرٍ مِن الأيقونات.

القدّيسُ يوحنّا الإنجيليُّ وَصَفَ اللهَ بِكلِمَةٍ واحدَةٍ: "المحبّة". مُذَكِّرًا إيّانا بِدَعوةِ الربِّ لِكلِّ واحِدٍ مِنّا: "أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ. وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ"(١يوحنّا ٧:٤-٨).

وَلم يَكُن يَستَطيعُ أن يَكتُبَ بِكلماتٍ نورانِيَّةٍ كلَّ ما شَهِدَهُ وَلَمَسَهُ وَعاشَهُ مَعَ الربِّ، لو لم يَحيَ بحسبِ مشيئةِ اللهِ، مُدْرِكًا تمامًا وعن يقينٍ وحقٍّ، أنَّ المسيحَ المُخلّصَ هو كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا، وَأَنَّ الإلهَ الكلمةَ صارَ جَسدًا لكي نحيا بهِ ومَعَه حَياةً أبَديّة، وها هوَ يَدعونا بأن نُحلِّقَ معَه في سَماءِ الربِّ حيثُ مَوطِنُنا الأوَّل.

كما يَجعلنا يوحنّا في تحليقهِ اللاهوتيّ نَكتشف بأنّنا فعلًا نُسورٌ مِثلَه، وأنَّ مكانَنا فوقُ، إذ قال لنا الرَّب: "آخذُكم إليَّ حيثُ أكونُ أنا، تكونون أنتم أيضًا"(يوحنّا ٣:١٤).

ولِنُجيبَ عنِ السُّؤالِ الّذي طُرِحَ في البداية: ماذا يَحدُثُ لو اكتَشَفنا طبيعَتَنا الحَقيقيَّة؟ الجواب: يَحدثُ أنَّنا لا نعودُ نَتلَّهى بأيّ شيءٍ يُبعِدُنا عن مَلكوتِ الله.

يا حبَّذا لو نَظرّنا في الإنجيلِ ورأينا وجهَنا.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.