فعلتها الطبقة السياسية مرة أخرى في زهاء 13 شهرًا فقط لا غير، فجمدت التحقيقات في جريمة بحجم انفجار مرفأ بيروت، متجاوزة كل الأبعاد الإنسانية والأخلاقية لـ"مجزرة" قيل إنّها نتجت عن "الإهمال"، فيتّمت وشرّدت الآلاف، وذلك بزعم "الارتياب" المسمى "مشروعًا" من أداء قاض اختار بكلّ بساطة "التحرر" من الخطوط الحمراء.

لعلها "مفارقة" أن يتيح القانون لمن يُدّعى عليه ويُطلَب للاستجواب أن يقلب "السحر على الساحر"، إن جاز التعبير، فيدّعي هو على طالب استجوابه، بل يمنحه "امتياز" فرملة التحقيقات عن بكرة أبيها لفترة معيّنة، وفي التوقيت الذي يختاره، بما يتناسب مع المصلحة الآنية، لا لشيء إلا لكونه "مرتاب" من الادعاء عليه بدل المثول أمام القاضي.

هذا بالتحديد ما حصل في سياق لعبة "توزيع الأدوار" بين أركان الطبقة، ليتولى الوزير السابق نهاد المشنوق رفع دعوى "رد" بحق المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، فيتعطل التحقيق بانتظار قرار محكمة الاستئناف وكلمتها الفصل، بعد دعوى أخرى سبقه إليها الوزير السابق يوسف فنيانوس الذي صدرت مذكرة توقيف غيابية بحقه.

لا شك أن خطوة الوزير المشنوق لم تأت معزولة في الشكل والمضمون، فقد تم التمهيد لها بمسار طويل ومعقد، بموازاة مسار التحقيق، تصدى "حزب الله" لمعظم محطاته بالتصويب المباشر على القاضي البيطار، ما أثار الكثير من علامات الاستفهام عن الخلفيات والمغازي والأهداف المنشودة خلف ذلك.

وكان لافتًا في هذا السياق أن الحزب على لسان أمينه العام السيد حسن نصر الله كان أول من هاجم المحقق العدلي منذ تسربت لوائح أسماء المدعى عليهم، واتهمه بتسييس التحقيقات، بل طالب باستبداله في حال إصراره على المضي بالنهج نفسه، رغم أنه القاضي الثاني الذي يستلم الملف بعد "عزل" سلفه للأسباب والاعتبارات نفسها.

وفي حين بدا موقف حزب الله مستغربًا بالنسبة إلى كثيرين، خصوصًا أن كلّ المدّعى عليهم ليسوا من المنتمين إلى صفوفه ولو كانوا من "الحلفاء" وربما "الأصدقاء"، ما أوحى مرة أخرى وكأنه يلعب دور "حامي النظام"، ثمة من أفتى بأن الحزب يستبق الأمور ويستشعر بأن رأسه هو المطلوب في نهاية الأمر.

أما آخر المحطات التمهيدية للانقضاض على القاضي البيطار فتمثل في ما قيل إنها رسالة "تهديد" صادرة عن رئيس وحدة الارتباط والتنسيق فيه وفيق صفا وتولت نقلها إحدى الإعلاميات، علمًا أن الحزب تعمد الصمت، وهو لم ينكر المضمون المتداول والمثير للجدل في مفارقة فسرت في بعض الأوساط "موافقة ضمنية" وفق منطق "الرسالة وصلت".

وبمعزل عن مضمون الرسالة وخباياها التي يبدو أنها لم تنته فصولا بعد، الأكيد أن التحقيق جمد، علمًا أن هناك من يجزم أن القاضي "طار" عمليًا حتى لو تم رد دعوى الوزير المشنوق "بالشكل" وفق ما ترجح بعض التسريبات، لأن هناك سلسلة من الدعاوى الجاهزة التي تنتظر دورها، إلا في حال قرر المحقق العدلي تغيير مسار عمله، وهو ما يبدو مستبعدًا كما يكاد يجزم العارفون.

ولعل المفارقة الجدليّة الأخرى التي توقف عندها البعض والتي قد تفسر منطق "الانتصار" الذي هلّل له بعض السياسيين يتمثل في "التوقيت الرمزي" لدعوى الوزير المشنوق التي ضرب من خلالها أكثر من "عصفور بحجر"، حيث إنّها جاءت تزامنًا مع "تحرر" القاضي من الحصانات النيابية، ما كان سيمنحه وقتًا مستقطعًا لاستجواب النواب قبل بدء الدور العادي للبرلمان.

في كل الأحوال، قد لا يصح القول إن الطبقة السياسية "انتصرت" على المحقق العدلي، لكنها في المقابل كسبت جولة جديدة في المواجهة، قد تكون حاسمة ومفصلية، وهي أثبتت في الوقت نفسه، مرّة أخرى، أنها تمتلك أوراق "تحصين" ذاتها، فعندما يطلب المحقق استجواب النواب لا يعطى الإذن، وعندما يصبح قادرًا على استجوابهم دون إذن "تُكف يده" بكل بساطة.

قد تكون هذه المعادلة بكل ما تنطوي عليه من "وقاحة" منقطعة النظير، إن جاز التعبير، غريبة عجيبة، لكنها تختصر الكثير. ببساطة تقول الطبقة السياسية إنها ترحب بالتحقيق، بل جاهزة لدعمه، لكن بشرط أن يبقى بعيدًا عن "رموزها" ولا يمس بالتالي بأي من قياداتها، وكأنها تدعو لاعتبار جريمة الرابع من آب "قضاء وقدرًا"، لا غير.

ليس في الأمر مبالغة، فالسلطة السياسية التي تحاكم قاضيًا لأنه ادعى على سياسيين، تفرض الفيتوات على أي قاض يمكن أن يقبل المهمة "الانتحارية"، وقد لا يعثَر له على أثر في حال "تطيير" القاضي البيطار٬ لأنه سيدرك سلفًا أنه لن يستطيع إنجاز شيء إلا على طريقة ما يطلبه السياسيون، وفي ذلك إفراغ لمهمته من مضمونها.

يوحي ما سبق إن السلطة السياسية التي ترفض التحقيق الدولي وتتهم كل قاض يمس بها بالتسيس، لا تسعى سوى إلى تحقيق يحصر المسؤوليات بصغار الموظفين، إن احتاجت إلى كبش محرقة، ونقطة على السطر. قد تنجح هذه الطبقة في تجميل الأمر والإيحاء بإنها مستهدَفة، لكن كيف تقنع أهالي الضحايا، وقبلهم الشهداء الأحياء الذين لم يستفيقوا من "تروما" الرابع من آب بعد، وقد لا يستطيعون على الإطلاق!.