"أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذُلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ". هذا ما قاله الرَّبُّ يسوعُ المسيحُ عن نفسِه، وهذا ما نقرأُه في إنجيلِ هذا اليَوم(يوحنا ١١:١٠).

صِفَة "الرَّاعِي الصَّالِحُ" لها حُضورُها القَويّ في الإيمانِ المَسيحيّ على صعيدَين رئيسيَّين:

الأوّل، كتابيًّا، وهي تَضعُ أمامَنا اهتِمامَ اللهِ لِخلاصِ البَشر، لِذا نَسمَعُ صوتَ الرَّبِّ مُجلجِلًا في هَذا الأَمر.

ثانيًا، فنًّا كَنَسِيًّا مِن خِلالِ أيقُونَةٍ رائعَةٍ تُعرَفُ بِأيقُونَةِ "الرَّاعي الصَّالِح ΠΟΙΜΗΝ ΚΑΛΟΣ/ POIMIN KALOS ".

فلنأخُذْ أوَّلًا ما كَتبَهُ النَّبيّ حَزقيال، في العَهدِ القَديم في الإصحاحِ الرَّابِع والثَّلاثِين، تَحديدًا حَولَ الرَّاعي والرِّعايَة، والّذي يأخُذُ مَعناهُ الكامِلَ في قَولِ الرَّبِّ أعلاه. ونَصُّ حَزقيال هذا يُعتَبَرُ بِمثابَةِ دُستُورٍ لِكُلِّ كاهِنٍ وخَادِمٍ في الكَنيسَةِ، إذ يَبدأُ إصحاحَهُ بِهَذِهِ الآيَة:

"هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لِلرُّعَاةِ: وَيْلٌ لِرُعَاةِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا يَرْعَوْنَ أَنْفُسَهُمْ. أَلاَ يَرْعَى الرُّعَاةُ الْغَنَمَ؟" (حزقيال ١:٣٤-٢).

تَنبيهُ الرَّبِّ للرُّعاةِ ألاّ يَكونوا أُجَراء، وهذا على مِقدارِ المَحبَّةِ الّتي يَطلُبُها مِنهم، والّتي هِي أَصلًا تَنبَثِقُ مِن مَحبَّةِ اللهِ اللامُتنَاهِيةِ لنا، لِذا يُشَدِّدُ الرَّبُّ على أن كُلَّ عَمَلٍ في الكَنيسَةِ وكُلَّ خِدمَةٍ، هَدفُها الرِّعايَةُ مِن أَجلِ خَلاصِ النُّفُوس.

لِذا يُكمِلُ حزقيال قَولَ الرَّب: "هَأَنَذَا أَسْأَلُ عَنْ غَنَمِي وَأَفْتَقِدُهَا. كَمَا يَفْتَقِدُ الرَّاعِي قَطِيعَهُ يَوْمَ يَكُونُ فِي وَسْطِ غَنَمِهِ الْمُشَتَّتَةِ، هكَذَا أَفْتَقِدُ غَنَمِي وَأُخَلِّصُهَا".

هنا يَكمُنُ كُلُّ الفَرقِ، فَخارِجَ المَسيحِيَّةِ اللهُ بَعيدٌ في سَماواتِه. الفَلسفَةُ تَكلَّمت على "إيّونات" بِمعنى وُسَطاء Mediateurs، وهناك مَن تكلَّمُوا على أَنبياءَ ومُرسَلين، بينما المَسيحِيَّةُ قالت، إلهُنا هنا، أي صارَ إنسانًا، وبَقِيَ إلهًا طَبعًا، لِنَقتَبِلْ بِدَورِنا الإلهِيَّات ونَرتَفِع. نَزَلَ لِيُصعِدَنا إليهِ حامِلًا إيّانا كمَا يَحمِلُ الرَّاعي غَنمَتَه.

نعم، لم يَرضَ اللهُ أن يَتُوهَ الإنسانُ ويَضِلّ. فالضَّلالُ يُفقِدُهُ هُويَّتَهُ الإنسانِيَّةَ الّتي هِيَ على صُورَةِ اللهِ، والإنسانُ مَدعُوُّ لِتحقِيقِها. وبِفُقدانِ الإنسانِ إنسانِيَّتَهُ يُصبِحُ بَهيمِيًّا. فكلمةُ بَهيم في أُصولِ اللُّغةِ، إلى جانِبِ أنَّها تَعني الغَباءَ الكُليّ، فَهِيَ أيضًا تعني الظَّلامَ وانعِدامَ النُّور، أي "لا ضوءَ فيه إِلى الصَّبَاح"، وصباحُنا هو الرب. فلا شيءَ يُنيرُ الإنسانَ إلّا سُكنى اللهِ فيه، مِن هُنا نَقولُ عن القِدّيسِ بأنَّهُ مُستَنِير.

والاستِنارةُ أوّلًا وآخرًا المَحبَّة. لِهذا أتى كلامُ الرَّبِّ، قاسِيًا وقاسِيًّا جدًّا: "هأَنَذَا عَلَى الرُّعَاةِ وَأَطْلُبُ غَنَمِي مِنْ يَدِهِمْ".

ونُكرّر، انعِدامُ المَحبَّةِ هو الظَّلام، وهذه هِيَ البَهيمِيَّة. وهذا الأَمرُ لا يَقتَصِرُ على الرُّعاةِ فحسَب بل يَشمُلُ أيضًا كُلَّ الشَّعب. لذا يَقولُ الرَّب: "هأَنَذَا أَحْكُمُ بَيْنَ شَاةٍ وَشَاةٍ، بَيْنَ كِبَاشٍ وَتُيُوسٍ".

وهذا تمامًا ما أتى فيما هُوَ مَعروفٌ بِإنجيلِ الدَّينُونَة: "يَجْتَمِعُ أَمَامَهُ (الرب) جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ. فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ" (متى ٣٢:٢٥-٣٣).

فـ"الرَّاعي الصَّالِحُ" الذي هُوَ الرَّب، تَجَسَّدَ ليَنقُلَنا مِنَ الحالَةِ البَهيمِيَّةِ هذه، إلى الحَالَةِ الإلَهِيَّةِ النُّورانِيَّةِ، مُرورًا باستِرجاعِنا إنسانِيَّتَنا السَّاقِطة. وهنا يَبرُزُ جَمالُ أيقُونَةِ الرَّاعِي الصَّالحِ بِحَيثُ نَرى الرَّبَّ حامِلًا حَمَلًا على كَتِفَيهِ لِيُعيدَهُ إلى حَظيرَته، ويَكونَ بِأمَان.

ولا بُدَّ مِنَ الإشارَةِ إلى أنّه في الحَضارَاتِ القَديمَةِ، قبلَ المَسيحِ، شَخصِيَّةٌ مُشابِهةٌ لِما تُصَوِّرُهُ أيقُونَةُ الرَّاعي الصَّالِحِ، تَحمِلُ حَيوانًا قُربَانِيًّا، وكانت تُدعى Moscophoros إذا كانَت تَحمِلُ عِجلًا، أو Kriophoros إذا كانَت تَحمِلُ حَمَلًا. (Phoros فِعل حَمَلَ/ Mosco العِجل/ Krio الحَمَل).

كما أنَّ الإلهَ الإغريقي Hermas عُرِفَ كإلهِ الرُّعيان، وكان على شَكلِ شَخصٍ يَحمِلُ حمَلًا. وتَذكُرُ الأسطورَةُ أنّهُ أنقَذَ مدينةً في وسَطِ اليُونان مِنَ الطّاعونِ حاملاً كَبْشًا أو عِجلًا، دائرًا به حولَ أسوارِ المَدينة. وكان يُقامُ مهرجانٌ سنويٌّ لإحياءِ ذِكرى هذه الأُسطورة، في خِلالِهِ يختارُون "الفتى الأكثرَ وسامةً" ليَحمِلَ الحَمَلَ في جميع أنحاءِ المدينةِ، ثمَّ يُقدِّمُه ذبيحةً مِن أجل تطهيرِ المدينةِ وحِمايتِها مِنَ الأمراضِ والجَفافِ والمَجاعَة.

وكان Hermas يُعتَبَرُ إلهًا مُحارِبًا، سريعَ الحَركَةِ والاستِجابَة، يَتنقَّلُ بينَ عالَمِ الآلِهَةِ وعالَمِ الأموات، كما كان أيَضًا مُرشِدَ الرُّوحِ إلى العالَمِ الثّاني.

قد يقول قائل، التَّشابُهُ بين الفكرِ الوَثنيّ والإيمان المسيحيّ ظاهرٌ هنا، فنجيب: مهلًا، التَّشابُهُ في الشَّكلِ الخارِجيّ وليس في المَضمُون.

فكمَا هُوَ مَعروفٌ إنَّ الفنَّ غيرُ مُنفَصِلٍ عنِ الإنسان، لا بل هُوَ في تَلاحُمٍ كَبيرٍ مَعه، وهُوَ يُتَرجِمُ حضارةَ الشُّعوبِ وثقافتَها ومُعتقداتِها. فَليسَ غَريبًا على الإطلاقِ وُجودُ تَشابُهٍ ما، إلّا أنَّ المَعنى مختلِفٌ تمامًا، وهناك كثيرٌ مِنَ الرُّموزِ قَديمًا، أخَذَت مِلئَها الكامِلَ في المَسيح. فكثِيرٌ مِن الأشياءِ أخذَتها المَسيحِيَّةُ و"لوَهَتَتَها"، كالبَخورِ والمَذبَحِ والشَّمعِ وغيرِها. هذا طَبيعيٌّ جدًّا، لأنَّ الإنسانَ يَستَعمِلُ المَوجُوداتِ ليُعَبِّرَ عن مشاعِرِهِ ومُعتَقدَاتِه.

ومَن يَتفَحَّصُ مسارَ البَشرِيَّةِ مُنذُ البِداية، والّذي تَشهَدُ عليهِ الأعمالُ الفَنيَّةُ التي اكتُشِفَتْ في المَغاوِرِ والكُهوفِ والحَفريَّاتِ وفي أَماكِنَ أُخرى، يُلاحِظُ أنَّ الإنسانَ كان في بَحثٍ مُستَمِرٍّ عن إلهٍ جبّارِّ يَحميه، وعن قِوىً عُظمى يَستنجِدُ بِها. وأيضًا كان في سعيٍّ دائمٍ لإشباعِ ما تبحَثُ عنهُ نفسُه، ألا وهُوَ السَّلام الداخلي، إذ إنَّ النفسَ البَشرِيَّةَ تبحَثُ عن خَالِقِها، ولا ترتَاحُ إلّا فيه، أَأَدرَكَ الأنسانُ ذلك أم لم يُدرِك، لأنَّ اللهَ هُوَ الذي أَعطى البَشرَ نَسمَةَ الحيَاة، وفي كُلِّ إنسانٍ شيءٌ إلهيٌّ بِحَسبِ خُبرَةِ الآباءِ القِدّيسِين.

وبِالعَودَةِ إلى الإله الوَثنيّ Hermas، كان يَحمِلُ الحَمَلَ لِيُقدِّمَهُ ذَبيحَةً للآلِهة، بينما في المَسيحِيَّةِ الرَّاعي الصَّالِحُ الذي هُو المَسيحُ، قَدَّمَ نفسَهُ ذَبيحَةً عَنّا، وهُوَ يَحمِلُنا (بِصُورَةِ الحَمَل) على كَتِفَيهِ لِيُخلِّصَنا ويُعيدَنا إليه. إذًا الفَرقُ شاسِع.

خِتامًا نَقولُ، الإنسانَ، على مرِّ العُصورِ، عبَّرَ بِفَنِّهِ عن تَطوُّرِهِ بِحَيثُ انتَقَلَ مِنَ الفَنِّ الحَيوانِيّ، إلى الفَنّ النَّباتيّ وُصولاً إلى الفَنِّ الإنساني، أي: حَفَرَ وصَوَّرَ الحَيوانَ، فَالطَّبيعَةِ، فالإنسان. ومَعَ استقرارِ الإنسانِ أَخذَت تَصاويرُهُ تزدادُ نُضجًا.

الخَوفُ أن يَعودَ إنسانُ هذا العصرِ إلى ما يُسمّى الوَحشِيَّةَ والبَربريَّة ويَستقِرَّ فيها، لأنَّهُ غالبًا ما يعيشُ في عالَمٍ افتِراضيّ مُجرَّدٍ مِنَ المَشاعِرِ والأحاسيس، ما يؤدّي إلى دَمارِ الإنسَانِيَّة.

لقد صدرَ كِتابٌ في العام ٢٠٠٨ بعنوان "Renaissance sauvage: l'art de l'anthropocène"، أي "النَّهضَةُ المُتَوحِّشة: فنُّ ظُهورِ الإنسانِ على الأرض"، للدّكتور الفَرنسيّ المُتخصِّصِ في التَّاريخِ وتَاريخِ الفَن، De Guillaume Logé، يتناولُ فيهِ مسألةَ بقاءِ الجِنسِ البَشريّ.

هُوَ كِتابٌ غريبٌ بَعضَ الشَّيءِ، في أُسلوبِهِ وفَنِّهِ وعِلمِهِ ونَفَسِهِ الأدبيّ، ولكِنَّهُ يُسلِّطُ الضَّوءَ فَنيًّا وفَلسَفِيًّا وسِياسيًّا على أَعمالٍ فَنيّةٍ مَشهُورَةٍ في العالَم، وعلى الثَّوراتِ العِلمِيَّةِ والتَّطوُّرِ التّكنولوجيّ وتأثيرِه على الإنسان، بِحيثُ يَقول إنَّ الإنسانَ لم يَعُدْ يَتصرَّفُ كَسَيِّدٍ ومالِك، فارِضًا إرادَتَهُ على طَبيعَةٍ سَلبيَّةٍ لا نِهايَةَ لها. ويُتابِعُ بأنَّ المَرءَ باتَ يملِكُ شَريكًا جَديدًا وهُوَ العالَمُ مِن حولِنا، والّذي يُقَويّ الكَرامَةَ "المُتوَحِّشَة".

رُغمَ هذا كُلِّه، يَنتَصِبُ الرَّاعي الصَّالِحُ في أيقُونَتِه الجميلَةِ أمامَنا، طريقًا وَحيدًا للخلاصِ، نَرفَعُ إليهِ صَلواتِنا أن يَجعَلَ كُلًّا مِنّا ذاكَ الحَمَلَ الّذي يَضعُهُ الرَّبُّ على كَتِفَيهِ لِيَضُمَّهُ إلى "الحَظيرَةِ" السَّماوِيَّة، فنُصبِحُ عِندَها رَعِيَّةً وَاحِدَةً لرَاعٍ وَاحِد.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.