من اللافت متابعة التصريحات التي صدرت حول تسمية نجلاء بودن رئيسة للحكومة التونسية وتكليفها بتشكيل الحكومة من قبل الرئيس قيس سعيد؛ إذ لم يتوقّف أحد عند سرد خبرتها أو تاريخها أو المواقع التي شغلتها وأدائها في هذه المواقع، بل توجّهت الأنظار كل الأنظار إلى كونها سيدة وما إذا كانت ستنجح أم ستفشل في حلّ الملفات الشائكة، وكأنّ رؤساء الوزراء الذين سبقوها في تونس أو في غير تونس من البلدان قد حلّوا كلّ الملفات التي كانت بانتظارهم وأحدثوا فرقاً لا يُنسى في حياة مواطني بلدانهم.

رغم كلّ ما يدّعيه الغرب أو الشرق من تقدم في الموقف من المرأة، فما زالت النظرة الدونية للمرأة سيدة الموقف إلا من قبل نخبة ضئيلة لا تستطيع أن تحدث فرقاً حقيقياً على مستوى المجتمعات بأسرها، وغالباً ما يتمّ استقبال تعيين أيّ امرأة في موقع سام بسلّة من الشكوك والتساؤلات تحبط حتى القادرين والمتمكّنين، وقد تثبط عزيمتهم على العطاء وتصميمهم على النجاح؛ إذ ما زالت نسب النساء التي تمثّل مواقع مهمّة في صنع القرار ضئيلة جداً في جميع أنحاء العالم، وما زالت النساء تشغل نسبة عالية من الوظائف الأقلّ أجوراً في العالم. كما أنّ استمرار المرأة بتحمّل معظم الأعباء المنزلية بالإضافة إلى الإنجاب وتربية الأطفال، مع عدم تكريس الموارد الكافية للحضانات ورياض الأطفال والتعليم المبكّر ألقى على المرأة عبء الاختيار بين تكريس الوقت للمهنة والإبداع والتميز أو تقسيم هذا الوقت بين المهنة والأسرة.

قد لا يعلم البعض أنّ الدول الغربية، والتي يحلو لنا نحن العرب أن نطلق عليها اسم "الدول المتقدّمة" لم تكلف نفسها عناء توفير بيئة مناسبة للمرأة العاملة تمكّنها من منافسة حقيقية مع زميلها الرجل، ومع ذلك لا أحد يذكر اختلاف الظروف جذرياً لدى إجراء المقارنات. لقد سبّبت هذه الإشكالية عزوف نسبة من النساء في الدول الغربية عن الإنجاب لأنّهنّ أدركن أنه عليهنّ أن يخترن بين الأمومة والمهنة، هذا الخيار الذي يؤكّد عدم ارتقاء النظرة للمرأة إلى شريك كامل الشراكة، ولهذا فإنّ كثيراً من هذه الدول تعاني اليوم من ضآلة نسبة الشباب وارتفاع نسبة الفئة العمرية في مرحلة الشيخوخة، والتي يحاولون تعويضها من خلال استقدام المهاجرين الأطفال والشباب بدلاً من تعديل القوانين وأساليب العمل والنظرة الاجتماعية التي أوصلت المجتمعات إلى ما وصلت إليه.

لقد كنت في المملكة المتحدة في سبعينات القرن الماضي حين كانت الحركات التي أسمت نفسها بالحركات التحرّرية النسائية في أوجها، والتي نفذ قسم من شعاراتها ومفاهيمها إلى بعض النساء العربيات، ولم أقتنع يوماً أنّ "المساواة" هو الشعار السليم لهذه الحركات لأنه لا يمكن المساواة بين من منحهنّ الله نعمة الإنجاب، وبين شركائهن الذين أوكلت إليهم مهام مختلفة في الحياة، ولذلك فإنّ ما يحتاجه العالم بين النساء والرجال، وبين مختلف الأعراق وأتباع الديانات هو تكافؤ الفرص وليس المساواة؛ أي تكافؤ الفرص كلّ حسب طبيعته وإمكاناته والمهام الطبيعية التي أسندت إليه في هذه الحياة.

أمّا أن يتمّ التركيز على "الجنس" أو "النوع" لدى إسناد أيّ وظيفة، والتشكيك ما إذا كان الشخص قادراً على تحمّل هذه الأعباء بسبب النوع البشري الذي ينتمي إليه، فهذا لا يقلّ عنصرية عن التشكيك بقدرة الإنسان ذي السحنة السمراء مقابل أصحاب السحنة البيضاء، أو أتباع ديانة معيّنة مقابل أتباع ديانات أخرى، وكلّ هذه المواقف والفرضيات ولدت من رحم عنصرية مقيتة أو نظرة دونية أوجدها بعض المغرضين والمستشرقين والذين لا يؤمنون بالوحدة الإنسانية والبشرية، أو الذين تتعارض مصالحهم المادية مع نظرة التكافؤ والمساواة في الإنسانية بين البشر.

وللمتسائلين عن قدرات المرأة على حلّ الملفات العالقة والشائكة، أقول ببساطة أوَ لا يحكم العالم اليوم بغالبيته الرجال حيث لا تحتلّ المرأة إلا نسبة صغيرة من مواقع صنع القرار في العالم، وما هو حال العالم اليوم؟ هل تمكّن هؤلاء من حلّ الملفات الشائكة سواء في بلدانهم أو على مستوى المنظمات الدولية والمنتديات العالمية، أم أنّ الإفتراض السائد هو أنّ العالم بخير لأنّه من الطبيعي أن تكون مقاليده بيد الرجال، وأنّ الخطورة تكمن في تولّي المرأة مناصب قيادية نتيجة عدم الثقة بمقدراتها، وإلى أين يمكن أن تؤول الأمور. هذا الافتراض بحدّ ذاته يشكّل انتقاصاً من مكانة المرأة، وقدرتها على الأداء المتميّز العالمي؛ فكما أنّ نسبة الرجال الذين قدّموا خدمات مميّزة للبشرية قليلة، كذلك قد تكون نسبة النساء، ولكن هذا ليس بسبب النوع البشري، وإنما بسبب طبيعة البشر وإمكاناتهم.

ولنا أسوة حسنة في كتاب الله عزّ ودجلّ، الذي خصّ القلّة في كتابة وفي سور وآيات عديدة بفضائل الإيمان والعطاء ضدّ الكثرة، والتي ليست محمودة أبداً في معظم سوره: وما آمن به إلا قليل، وأكثرهم فاسقون، وأكثرهم منافقون، وأكثرهم كافرون، وأكثرهم لا يؤمنون... واليوم، ونحن نشهد انزياحات قيمية وأخلاقية في كلّ مكان وغربة في الزمن لم تعد مقتصرة على غربة المكان، لا بدّ لنا أن نعيد التفكير بمنظومة القيم وأساليب وآليات العمل التي أوصلت عالمنا اليوم إلى ما وصل إليه، ولا بدّ لنا من التمتّع بالجرأة، وإعلاء الصوت ضدّ السلبي من المتوارث، واستبداله بما هو إيجابي ومنتج ويعود بالفائدة والخير على البشر جميعاً.

لقد وصل عالم اليوم إلى مكان لا يحسد عليه، حيث تكاد قوى المال والشر تتحكّم بمفاتيح العمل والأسلوب والتصرّف، وتهمّش كل من لا يتفق معها في هذا المسار، حيث بدأنا نشهد أنماط تفكير وأساليب عمل كانت منبوذة حتى قبل فترة قصيرة، ويتمّ الترويج لها وتعويد الأذواق على استساغتها رغم أنها مدمّرة للأسرة والروابط التي شهدتها الإنسانية منذ الخليقة وحتى اليوم. في هذا المفصل الخطير، قد يكون استدعاء طاقات المرأة والفئات التي درج العالم على تهميشها بسبب الجنس أو العرق أو اللون أو الجذور عملاً ضرورياً لتفجير طاقات كامنة قد تساهم في وضع رؤى وحلول ومفاهيم تساهم في تصويب بوصلة العالم واستعادة القيم الإنسانية والأخلاقية الرائدة إلى مراكز القرار والعمل والإنتاج. فالمرحلة الاستثنائية التي يمرّ بها عالم اليوم في كافة أركانه من غربة الزمن تستدعي اجتراح حلول غير تقليدية وتفكير خلّاق ومبدع تنخرط به النساء والرجال والإثنيات والقوميات وكافة الأعراق والأديان في عملية إنقاذية يشعر الجميع على هذه البسيطة بضرورتها دون أن تتوفر خارطة طريق لها بعد. لقد أثبتت المرأة جدارةً وتفوقاً في التحصيل العلمي والمعرفي ولكنها ما زالت مكبلةً إلى حدّ بعيد لعدم توفّر الشروط التي تمكنها من استخدام وقتها بالطريقة المثلى وهذا ليس شأناً نسويّاً ولكنّه شأن وطني وإنساني لأن مساهمة المرأة الحقيقية في بناء الأوطان ستحدث فرقاً هائلاً في حياة النساء والرجال على حدّ سواء.