بمجرّد أن وصل وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى المملكة العربية السعودية، حيث عقد محادثات مع المسؤولين السعوديّين، حتى بدأت التساؤلات عن "موقع" الملفّ اللبنانيّ في المعادلة، وما إذا كان قد حضر على طاولة الحوار بين الجانبين، "طبقًا رئيسيًا"، أو "على الهامش"، كما يحلو للبعض أن يقول.

لكنّ ما رشح عن المحادثات لم يوحِ بأنّ الملفّ اللبنانيّ شكّل أساس اللقاء، باعتبار أنّه لم يعد من "القضايا ذات الاهتمام المشترك"، التي تناولها الاجتماع، وفقًا للبيانات الرسمية المقتضبة التي صدرت، علمًا أنّ الاهتمام السعودي قد يكون مركّزًا على المحادثات النووية التي ينخرط فيها الأوروبيون مع إيران، والتي يتوقَّع أن تُستأنَف قريبًا.

رغم ذلك، ثمّة من ربط الاجتماع بوجود مسعى فرنسيّ جدّي، يدفع باتّجاهه الرئيس إيمانويل ماكرون شخصيًا، لإقناع الرياض بالالتفات مجدّدًا إلى لبنان، بعد مرحلة من "التجاهل والتطنيش"، إن جاز التعبير، أو بالحدّ الأدنى "غضّ النظر"، وهي سياسة لا يبدو أنّها تغيّرت مع ولادة الحكومة الجديدة، التي لم تعلّق عليها الرياض إيجابًا أو سلبًا، بعدما كانت قد رفعت "الفيتو" في وجه رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري.

يقول العارفون إنّ باريس تدرك أنّ السعودية لاعب أساسيّ على الساحة اللبنانية، وهي لذلك تسعى لإقناعها بالعودة إلى لعب دورها، لتكون بمثابة "شريكة" لها في المرحلة المقبلة، خصوصًا أنّها باتت تعلم علم اليقين أنّ نجاح مبادرتها في لبنان لا يمكن أن يتمّ من دون "مباركة" الرياض، خصوصًا بعد "المعاناة" التي عاشتها طيلة الأشهر الأخيرة خلال مرحلة تكليف الحريري، وكادت معها "ترفع العشرة" وتعلن "الاستسلام".

ومع أنّ محاولات الفرنسيّين لإقناع السعوديّين بتسهيل مهمّة الحريري سابقًا باءت بالفشل، إلا أنّهم لا يزالون يعوّلون على دور سعوديّ مختلف في لبنان في المرحلة المقبلة، خصوصًا إذا ما باشرت الحكومة بورشة الإصلاحات التي يطالبها بها المجتمع الدولي، ومن ضمنه المملكة العربية السعودية، التي كانت واضحة أكثر من مرّة بقولها إنّها لم تتخلّ عن لبنان، ولكن على المسؤولين اللبنانيين أن يتصدّوا لواقعهم أولاً.

وثمّة بين الفرنسيّين ومن يدورون في فلكهم من يعتقد أنّ الرياض يمكن أن تتعامل بـ"براغماتية" مع الحكومة اللبنانية الحالية، بناءً على العديد من الاعتبارات والأسباب، أولها أنّ رئيسها هو نجيب ميقاتي وليس سعد الحريري، خصوصًا بعدما تبيّن أنّ جذور الخلاف مع الأخير "شخصية" إلى حدّ بعيد، وقد تجلّت في أكثر من مُعطى، ولو أنّ الروايات الرسمية تتعمّد الفصل بين ما هو شخصي وما هو عام.

ومع أنّ الفرنسيّين يدركون أنّ مشكلة السعوديين مع الحريري تستند أولاً إلى اقترابه في فترة من الفترات من "حزب الله"، وتحوّله إلى "حليف مستتر" له، إن جاز التعبير، إلا أنّ ثمّة اعتقادًا لدى بعضهم أنّهم يمكن أن يبدوا "مرونة أكبر" إزاء ميقاتي، ولو كان الأخير يبدو "أقرب" إلى "حزب الله" من الحريري، وقد كان في السابق رئيسًا لحكومة وُصِفت في بعض الأوساط المحلية والدولية بـ"حكومة حزب الله".

في المقابل، يستبعد المتابعون للشأن السعودي أيّ تغيير في موقف الرياض، وهم يؤكدون أنّ ما يسري على الحريري ينطبق بدرجة أكبر على ميقاتي، بعيدًا عن كلّ ما يُنسج عن الخلافات الشخصية والمالية مع "الشيخ سعد"، علمًا أنّ ميقاتي سُمّي أصلاً بـ"تزكية" من الحريري نفسه، وبموافقة "ضمنية"، وربما "مباركة"، من "حزب الله"، فضلاً عن كون حكومته ضمّت وزيرين سمّاهما الحزب، ولو بصورة غير مباشرة.

ويقول هؤلاء إنّ الموقف السعودي ليس "مغلقًا" إزاء لبنان، ولكنّه في الوقت نفسه واضح، إذ إنّ الرياض ليست "جاهزة" لتكرار التجارب السابقة، حين كانت تدعم لبنان بمُعزَل عن "تركيبة" الحكومات، لتصطدم في الوقت نفسه، بما يصفه المحسوبون عليه بـ"الطعنة في الظهر"، من جانب بعض الوزراء، فضلاً عن قادة الأحزاب، الذين وصل بهم الأمر لإطلاق هتافات "تتمنّى الموت" لقياداتها وأسَرهم.

من هنا، يؤكد العارفون أنّ أيّ "ليونة" أو "مرونة" في الموقف السعودي تبقى مُستبعَدة في الوقت الحاليّ، أقلّه بانتظار نضوج المعطيات أكثر، وظهور "نوايا" الحكومة الحاليّة، وكيفيّة تعاطي المجتمع الدولي معها، علمًا أنّ الأخير لم يحسم موقفه منها بعد، وهو لا يزال ينتظر ترجمة الأقوال التي يطلقها رئيس الحكومة وسائر الوزراء إلى أفعال ملموسة، يمكن البناء عليها لبلورة معالم المرحلة المقبلة.

في النتيجة، لا يُعتقَد أنّ المحطّة الفرنسيّة في الرياض ستُحدِث أيّ خرق على صعيد العلاقات اللبنانية السعودية، على الأقلّ بصورة مباشرة وفي المدى المنظور، فالسعودية متمسّكة بموقفها، وهي ترفض تقديم أيّ "شيك على بياض" للقادة اللبنانيين في المرحلة الحالية، ولا سيّما في "العهد" الذي يتحمّل برأيها مسؤوليّة كبرى في "الانزلاق" الذي حصل، بعدما تحوّل إلى "غطاء" لخصوم المملكة، وفق ما يقول داعموها.

وبين هذا وذاك، تبقى القناعة الأكبر لدى مختلف المطّلعين على الشأن اللبناني أنّ كلّ شيء سيبقى "مجمَّدًا" حتى استحقاق الانتخابات النيابية، التي سترسم عمليًا ملامح مرحلة ما بعدها، فالحكومة الحالية، على أهمية الدور المطلوب منها وحساسيّة المهام الملقاة على عاتقها، لا تُعَدّ في القاموس الدولي سوى "انتقالية" تجهّز لمرحلة جديدة، قد تتكرّس فيها المعادلات الحالية، لكنّها قد تنقلب أيضًا رأسًا على عقب!.