لم تنتهِ "المعركة" بين المحقّق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، والطبقة السياسيّة المعرقلة والمشوّشة على عمله، ممثّلة بالوزراء السابقين المدّعى عليهم، والساعين لـ"تطييره"، بقرار محكمة الاستئناف رفض دعاوى "الردّ" التي قدّمها هؤلاء، لاعتبارات تستند إلى "الشكل" قبل المضمون، بعنوان "الاختصاص".

فمع أنّ القرار صُوّر "مفاجئًا" في بعض الأوساط، إلا أنّه كان "متوقَّعًا"، من جانب من قدّموا الدعاوى قبل غيرهم، والذين أرادوا منها "المناورة" بالدرجة الأولى، و"تقييد" المحقّق العدلي في التوقيت "الفاصل" عن انطلاق الدور العادي لمجلس النواب، علمًا أنّ ثمّة سابقة من هذا النوع تعود إلى العام 2007، أسّست لمبدأ أو عرف "عدم الاختصاص".

وعلى الرغم من أنّ البعض هلّل لخطوة المحكمة، رافعًا قضاتها لمصاف "الأبطال"، وصوّر الأمر وكأنّه "انتصار" للمحقّق العدلي، فإنّ الأكيد أنّ في الأمر "مبالغة كبرى"، علمًا أنّ التقديرات تشير إلى أنّ القرار المُنتظَر، وإن جاء "مبكرًا" في قاموس الوزراء المتضرّرين والمشتكين، ليس النهاية، بل هو يؤسّس لـ"مواجهة مفتوحة" ستشتدّ ضراوة.

فعلى ضفّة القاضي، كان لافتًا، وربما متوقّعًا أيضًا، أن يسارع بمجرّد تبلّغه برفض دعاوى "الرد"، لاستئناف نشاطه، بإعادة تحديد مواعيد جديدة لاستجواب الوزراء السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق، قبل موعد 19 تشرين الأول "المفصليّ"، إضافة إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب العائد قريبًا من سفره وفق المعلومات.

ولعلّ موعد 19 تشرين الأول يختصر بين طيّاته كلّ أسرار وألغاز "توقيت" دعاوى الردّ وقرارات المحقق العدلي، وذلك لأنّ القانون لا يجيز للقاضي اتخاذ أيّ إجراءات قضائية أو جزائيّة بحقّ أيّ من أعضاء البرلمان "أثناء" دورة انعقاده، ما يعني أنّه "يتحرّر" من هذا القيد خارج فترة الانعقاد، وهو ما يتطلّب منه المباشرة بإجراءات قبل بدء الدور العادي في التاسع عشر من الشهر الجاري، أي خلال أقلّ من أسبوعين.

ولعلّ ما يخشاه الوزراء المدّعى عليهم يتمثّل في "فتوى" دستوريّة وقانونيّة تؤكّد أنّه متى باشر القاضي بإجراءاته بحقّ أيّ من أعضاء البرلمان، فيصبح بمقدوره عندها الاستمرار بملاحقة النائب المعني حتى خلال فترة انعقاد المجلس، باعتبار أنّه لا بدّ من استكمال التحقيق الذي فُتِح، وذلك بمُعزَل عن أيّ حصانات، أو طلب لإذن يدرك الجميع أنّه لن يحصل عليه، لا سيّما أنّ ثمّة طلبًا بهذا المعنى في "جوارير" البرلمان، الذي لم يُدعَ أساسًا للتصويت عليه.

لكن، في مقابل "ديناميكيّة" القاضي، ونشاطه اللافت، لاستكمال المسار الذي بدأه، لا يخفى على أحد أنّ "الهجوم المضاد" عليه، من جانب النواب المدّعى عليهم، إضافة إلى المرجعيات التي يُحسَبون عليها، لن يتوقّف في القادم من الأيام، علمًا أنّ هناك من لا يزال يجزم بأنّ قرار "تطيير" القاضي البيطار متّخَذ، وسيُنفَّذ عاجلاً أم آجلاً، وقد سبق لـ"حزب الله" أن أعلنه جهارًا، وهو تعمّد عدم "نكران" ما أثير عن "رسالة تهديد" قيل إنّه وجّهها للقاضي البيطار.

ويُتوقَّع في هذا الإطار، أن تتوالى دعاوى الردّ والنقل والارتياب المسمّى "مشروعًا"، لتحاصر المحقّق العدليّ، من كلّ حدب وصوب، علمًا أنّ هناك معلومات تتحدّث عن نيّة رئيس حكومة تصريف الأعمال، العائد إلى لبنان من "إجازته"، والذي سبق أن صدرت بحقه مذكّرتا إحضار، أن يلعب دوره على هذا الصعيد، بما قد يتيح "تعليق" التحقيق مرّة أخرى، وربما إلى أجَلٍ غير مسمّى.

ويُحكى كذلك أنّ الوزراء السابقين المدّعى عليهم، والذين تمّ تحديد جلسات جديدة لاستجوابهم، "لن يمثلوا" بكلّ بساطة أمام المحقّق العدلي، علمًا أنّ بعضهم كان قد "تطوّع" سابقًا للإيحاء بأنّه "جاهز" للمثول، حتى من دون "إذن"، ما يثير الكثير من التساؤلات والشكوك التي تبدو "مشروعة"، أكثر بكثير من "ارتيابهم" من القاضي، خصوصًا إزاء قضية رأي عام، بحجم تفجير المرفأ، لا يمكن أن تمرّ مرور الكرام.

ويقول كثيرون إنّ "جرعة الدعم" التي تلقّاها المحقّق العدلي من المجتمع الدولي لن تفيده كثيرًا، إذ إنّ السياسيّين سيكونون له بالمرصاد، وهم لن يسمحوا بالاقتراب من أيّ من "رموزهم"، علمًا أنّ ما لفت في الساعات الماضية ذهاب بعض المسحوبين على القوى السياسية التقليدية للترويج لفكرة أنّ دعم دول الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، للمحقق العدلي، "سبب كافٍ" للتشكيك به، في "منطق" يبدو "نافرًا" إلى حدّ بعيد.

هكذا، تبدو قضيّة انفجار مرفأ بيروت وقد حُرّفت عن مسارها، وبدل أن يكون التركيز منصبًّا بعد 14 شهرًا على الجريمة الكبرى التي هزّت كلّ لبنان، يصبح النقاش مركّزًا على "مصير" المحقّق الثاني الذي عُيّن للتحقيق بالقضية، ليؤكّد مرّة أخرى أنّ أحدًا لا يريد "الحقيقة"، سوى بالشعارات الإعلامية الرنّانة، وأنّ المطلوب إقفال التحقيق بالتي هي أحسن، وحصر المسؤوليات بـ"صغار الموظفين" الذين لا يقدمون ولا يؤخّرون.

وبين القاضي الذي "يسابق الوقت" في معركة تكاد تصبح "شخصية" بينه وبين السياسيّين، وبين الشخصيّات المدّعى عليها التي تقفز فوق "هول" الجريمة، وكلّ الأخلاقيّات، ولا تتردّد في "تخوين" أيّ قاضٍ يوجّه لهم الاتهام، يبقى أهالي ضحايا التفجير الكبير "الحلقة الأضعف" وسط كلّ ذلك، وهم الذين لا يريدون سوى "حقيقة" تفشّ الخلق، أو تخفّف شيئًا من "الحرقة" في قلوبهم، ولو كانوا يدركون أنّ ذلك مُحال وصعب المنال!.