لم تمرّ لقاءات وزير الخارجيّة الإيراني حسن أمير عبد اللهيان في لبنان من دون سجالات سياسيّة-إعلاميّة بين مؤيّدي "محور المُقاومة" ومُعارضيه، في ترجمة لما يعتبره الكثيرون صراعًا بين واشنطن وطهران على أرض لبنان. فهل هذا الصراع موجود عمليًا، وهل فعلاً لبنان واقع حاليًا تحت حصار أميركي تُحاول إيران رفعه؟.

لو عُدنا قليلاً إلى الماضي، إلى زمن مُحاولات تسويق نظريّات "الشرق الأوسط الجديد" من جانب الإدارة الأميركيّة الماضية، وحتى لو عُدنا إلى زمن الإنقسام العامودي الحاد بين قوى "8 و14 آذار"، لكان من المُمكن ربما الحديث عن صراع بين الولايات المُتحدة الأميركيّة والقوى الحليفة لها من جهة، وإيران والقوى الحليفة لها من جهة أخرى، على أرض لبنان. أمّا وقد تجاوزنا هذه المرحلة، وتفرّقت قوى "14 آذار" السابقة، وطغى دور "حزب الله" في موازين القوى الداخليّة، فإنّ هذا الصراع لم يعد موجودًا من الناحيتين العملانيّة والميدانيّة. وليس بسرّ أنّ لبنان وقع تمامًا في قبضة المحور الإيراني، بفعل الأكثريّة النيابيّة الحاكمة، وخُصوصًا بفعل تنامي قوّة "حزب الله" السياسيّة والعسكريّة، وتوسّع دوره من محلّي إلى إقليمي. وبعض الأصوات التي تعترض على هذا النهج من هنا وهناك، غير قادرة على تغيير هذا الواقع، حتى لو صدرت من أعلى المراجع على غرار الكاردينال مار بشارة بُطرس الراعي، على سبيل المثال لا الحصر. وبالتالي، إنّ السياسة التي يعتمدها لبنان واضحة المعالم، حيث أنّها رماديّة وحياديّة في الشكل، لكنّها مُنحازة إلى المحور الإيراني في المضمون، وخُصوصًا بحكم الأمر الواقع المُتمثّل بنُفوذ "حزب الله" وبمونته على العديد من القوى والجهات الداخليّة. لذلك، يُمكن القول إنّ لا صراع بين واشنطن وطهران على أرض لبنان حاليًا، لأنّ لا أرضيّة فاعلة لأيّ قوى مُؤيّدة للولايات المُتحدة في لبنان حاليًا، بعكس واقع القوى المؤيّدة لإيران القادرة على التدخّل عسكريًا خارج الحدود اللبنانيّة إلى جانب قوى "محور المقاومة"، والقادرة على فرض إستيراد ما تريده إلى لبنان، من السلاح إلى المحروقات وما بينهما!.

والمواقف التي أطلقها الوزير اللهيان خلال زيارته للبنان، ومنها إعلانه وُقوف الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بحزم إلى جانب لبنان "من أجل كسر الحصار الظالم"-كما قال، وكذلك طبيعة اللقاءات التي عقدها، ومنها إجتماعه إلى مُمثّلي "الفصائل والقوى الفلسطينيّة" في مقرّ السفارة الإيرانيّة في بيروت، تؤكّد أنّ إيران ماضية بسياستها الإقليميّة المُتشدّدة، لجهة بناء منظومة أمنيّة وسياسيّة مُتماسكة تشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن وقطاع غزّة، بقيادة إيران، لمُواجهة واشنطن والدول الحليفة لها في المنطقة. ويُمكن القول أيضًا إنّ ما يُحكى عن حصار على لبنان، غير موجود إلا من باب المُزايدات الإعلاميّة، ولضرورات شدّ عصب مُؤيّدي "محور المُقاومة". فما يُعانيه لبنان حاليًا من إنهيار إقتصادي ومالي، سببه الأساسي سياسات إقتصاديّة وماليّة فاشلة، إضافة طبعًا إلى الفساد المُستشري، والهدر المُستمرّ، وكذلك إلى عمليّات التهريب المُنظّمة إلى الخارج عُمومًا وسوريا خُصوصًا. والبُعد السياسي للإنهيار الذي يُعاني منه لبنان ينحصر في رفض بعض الدول الخليجيّة مدّ يد المُساعدة للبنان في ضائقته، لإعتبارات مُرتبطة بما تتعرّض له هذه الدول من جانب "المحور الإيراني" الذي يُهدّد أمنها في الصميم. وبالتالي، لا طائرات أو بوارج حربيّة أو وحدات بريّة عسكريّة تُحاصر لبنان، حيث أنّه بمجرّد توفّر "الدولارات"، يُمكن للبنانيّين إستيراد كل ما يرغبون به من مواد وسلع من الخارج! وتقاعس بعض الدول عن إرسال مُساعدات ماليّة للبنان لنجدته في محنته، مُبرّر من وجهة نظرها، حيث تعتبر أنّها تتعرّض لهجمات صاروخيّة مُباشرة، ولمُحاولات إلغاء، من المحور الذي تقوده إيران في المنطقة، وهي غير مُضطرّة لمُساعدة الدول والقوى التي تدور في فلك هذا المحور. وبالتالي، ما لم تحصل تسوية إقليميّة-دوليّة واسعة، تشمل من ضمنها طهران والرياض، فإنّ هذه الأخيرة مثلاً ليست في عجلة من أمرها لمُساعدة دول صارت واقعيًا مُصنّفة في "المحور الإيراني".

في الخُلاصة، بالتأكيد يُوجد صراع إقليمي-دولي على مُستوى المنطقة، وواشنطن وطهران تُمثّلان أبرز ركائزه، لكنّ لبنان لم يعد ساحة مُناسبة لهذا الصراع في المرحلة الحالية، بسبب غياب الندّية في موازين القوى. وحتى ما يُحكى عن آمال بحُصول تغيير في هذه الموازين بعد الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، غير دقيق، لأنّ جزءًا من هذا التغيير المَنشود غير سياسي الطابع، ولأنّ العديد من القوى السياسيّة التي كانت مُصنّفة "أميركيّة" صارت تحسب ألف حساب لخُطواتها ولمواقفها، وبالأخصّ لأنّ "حزب الله" تمكّن بسلاحه وبنفوذه من فرض مشيئته في لبنان، عندما صار يملك مع حلفائه "الأكثريّة"، وحتى عندما كان في الماضي القريب يُعتبر أقليّة صغيرة أيضًا!.