رواية الرغيف، للأديب الكبير توفيق يوسف عواد، تعدّ من روائع الروايات التي تتحدث عن فترة الحرب العالميّة الأولى، وما خلّفته من أثار على لبنان. فيها تحضر الحرب بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، اللبنانيّة والعربيّة، عطفًا على خلفيّتها الدوليّة بصفتها حربًا عالميّة. تناولت الرواية اعوام الحرب، بؤسُا وجوعًا ونزوحًا. ولا تخلو رواية «الرغيف» من الأحداث والوقائع، بل هي تسلك خطًا تصاعديًا تتواتر عبره قصص الحرب والثورة والجوع والقتل، فالكاتب يصف ببراعة مشاهد الجوع، ومشاهد أخرى بدقّة متناهية. هذه الرواية بمكان أظهرت أهمّية نشوء القوميّة العربيّة، التي استطاع فيها المسيحي والمسلم، أن يتضامنا في وجه عدو مشترك لبلادهم ومنطقتهم، وما اشبه اليوم بالأمس، وكأن التاريخ يعيد نفسه.

سننتظر توفيق يوسف عواد جديدًا، ليقصّ علينا ما عاشه ويعيشه اللبناني خصوصًا، والمشرقيون عمومًا، من مآسي ما بعد العثماني والفرنسي ولتاريخه. ولكنّ الرّاوي سيتفاجأ بمفاهيم وعبارات جديدة، ومنها عبارة: "بشرى سارة للبنانيين"، حيث أعلن منذ فترة، نقيب الأفران، في حديث إذاعي، عن بشرى سارة للبنانيين، لافتا الى أنّ "لا أزمة خبز والمازوت تأمّن للمطاحن وخلال يومين سيتم تحديد سعر ربطة الخبز على ضوء ما سيبلغه سعر صفيحة المازوت". نشكر الله على هذه البشرى التي توازي بشرى نجاح أميركا بالوصول إلى المرّيخ.

أيجوز في القرن الحادي والعشرين، أن نعيش أزمة خبز وأزمة دواء وأزمة محروقات؟ أيعقل أن يُذلّ المواطن في لبنان إلى درجة الشعور بالسعادة والإنشراح، لدى حصوله على ربطة خبز أو صفيحة محروقات أم حبّة دواء، والفرح الأعظم عندما تأتي كهرباء الدولة ساعة من الوقت. أين المنطق عندما أسمع هموم أشخاص لا يستطيعون الحصول على أدوية للأمراض المزمنة، لدرجة بتنا نستجدي أحباء في بلاد الإغتراب لكي يمدوننا بأدوية للمرضى.

معظم الوقت تثور ثائرتي على المسؤولين، وأشعر بالغضب الشديد على ما اقترفوه فينا، ولا أعد أعرف بماذا أفكّر أو ماذا أقول. لكن ما يكبح ثورتي، هو تذكّري للمثل القائل: كَيفَمَا تَكُونُوا يُوَلَّىٰ عَلَيكُم". فنحن من أنتخبنا ونحن من أيّدنا، ونحن مَن ساهم بمكان ما في صناعة هذه المنظومة منذ العام ١٩٩٠ وقبلها. وها هي الإنتخابات النيابيّة القادمة، قد أطلق العنان لأبواقها، وبدأت المزايدات بطرق وأساليب ملتوية وملغومة، والمواطن يسأل نفسه، ما هي القدرة على التغيير؟ في ظلّ قوانين انتخابيّة مخيّطة على مقاس صانعيها، في لبنان ودول الإغتراب. وقد بدأ الشعب يتساءل عن البديل، بعد ما سقطت نظرتنا الإيجابية إلى بعض الذين أطلقوا على أنفسهم لقب الثوّار، في حقبة معينة. وقناعتي أنّ القديم سيبقى على قدمه، بحيث هناك كثر منتفعون، ومصالحهم الخاصة والعامة إلى جانب المسؤولين، مع تسجيلي واحترامي لبعض الوجوه عند كلّ الأطراف، التي لا تنطبق عليها مقولة التعميم.

فعلًا هناك كثر من المواطنين، ألهوهم بالحصول على الخبز والمحروقات وأبسط مستلزمات الحياة. وقد نسوا أنّ وطننا بحاجة إلى تغيير جذري، لنحصل على دولة مدنيّة عادلة، لا يدفع أحد فيها ضرائب عن الآخرين، ولا يعد من أزلام يعيثون في الدولة فسادًا، ونخرج من عقلية المزرعة والميلشيات، ومن مصائب السلاح المتفلت.

هذا البلد بحاجة إلى رؤية جديدة للأمور، خصوصًا في موضوع النظام، الذي كان يصلح فقط لما بعد الحكم العثماني والإنتداب الفرنسي، وما بعدهما من وصايات واحتلالات.

نحن بأمسّ الحاجة إلى نظام يشعر فيه المسيحي بالأمان والطمأنينة من الشريك المسلم، ويشعر أيضًا بعدم الغبن في محطات كثيرة، ويتنافس مع اخيه المسيحي برقيّ وأخلاق، لا كما نشهد اليوم من مزايدات واغتيالات معنوية والعودة إلى ذهنيّة الميليشيات، من أجل منصب من هنا أو موقع من هناك، أو من أجل كرسي لم يعد لها من فعالية كبيرة بعد الطائف، والشباب المسيحي يدفع الثمن غاليًا، يأسًا وهجرة.

وعلى المسلمين بمكان، أن يقتنعوا بشراكتهم مع أخيهم المسلم، وعدم الخوف من تسلّط مذهب على آخر، وعدم الإستقواء بدول شقيقة أو صديقة، وبالتالي يعيش المسلم مع المسيحي البعد القومي العربي، الذين ناضلوا فيما مضى من أجله، واستطاعوا أن يحققوا وثبات نيّرة على هذا الصعيد.

التغيير بيد الناخب، ممنوع أن نتكلم عن تغيير، والناخب في بيته متسكّع. فالإصلاح يبدأ بالذات الإنسانيّة، يبدأ بالعقول المتحجّرة والنفوس الخانعة. الدساتير والأنظمة تتطور، فهي ليست كتبًا سماوية، لذلك حان الوقت لإجراء خطوات جبّارة وجريئة تحفظ حق اللبناني كمواطن، لا كإنسان منتمٍ إلى مذهب أو طائفة. حان الوقت ليسود العدل والعدالة منطق الدولة، لا منطق المحاصصة والتبعية والإستزلام ومفهوم المزرعة وقوة السلاح.

فلنتعاون من أجل البنيان، ومن أجل الخير العام، بما يضمن مصلحة الجميع، ولنحصّن الساحة الداخلية، من خلال تطوير النظام بشكل حضاري. فسقوط أيّ مذهب أو طائفة، ضمن منطق المواطنة، سيفقد هذا البلد فرادته، إنما الفكر الطائفي السائد هو نقمة وليس بنعمة. فالتقوقع والعنصرية والتحزّب والتطرف الطائفي، سيؤدي إلى الإنعزال، وهنا يكمن دور المراجع الروحيّة، والتي على عاتقها تقع مسؤوليّة وأد الفتن لا تهييجها، كما عليها تقع المسؤولية في مساعدة الناس لمواجهة المصاعب والأزمات المادية والمعنوية، وتحقيق العدالة، لا حماية الفاسدين والسارقين والقتلة والذين نهبوا البلد واستعبدوا البشر والحجر، إرفعوا الحمايات الطائفية عن هؤلاء وناصروا المظلومين، لنبنِ غدا عندنا دولة بكل معنى الكلمة، تقوم بدورها على أكمل وجه وتحقق العدالة المنشودة لا المسيّسة.

تحصين البيت الداخلي والتعاون البنّاء، يؤهّلنا للتعاون مع دول المنطقة، بإحترام بعضنا لبعض، وهذا قد يوفّر علينا مصائب وأزمات الرغيف، ومستلزمات الحياة، سيّما إذا كان لنا أسواق مشتركة، حيث تفتح للبنانيين آفاق كثيرة، وتحدّ من الخوف بين المذاهب والأديان ومن الهجرة المفتوحة، خاصّة إذا حصّنا بيتنا الداخلي بقوة، ومنعنا الآخرين من أن يتلاعبوا بمصيرنا. عند ذاك لن تتكرر رواية الرغيف، بل سننعم بمنجم يغدق علينا المنّ والسلوى، وستغدو الدولة القويّة حامية المواطن، لا نستمدّها من الطائفة أو الزعيم أو الأحزاب.

فلنساهم جميعًا في نشوء دولة لبنان الحديث، المبنيّ على أسس قويمة وسليمة، وعندها نقرأ مقولة "كَيفَمَا تَكُونُوا يُوَلَّىٰ عَلَيكُم" بشكل إيجابي.