مَعَ كُلِّ شُروقِ شمسٍ يُطِلُّ علينا تَذكارُ عيدِ قَمَرٍ، لا بل أَقمار. أقمارٌ ليست مِن تُرابٍ وحَجَرٍ بل هَياكِلُ لَحميَّةٌ جاهَدَتِ الجِهادَ الحَسنَ، وأَمست كَواكِبَ لامِعَةً تَعكِسُ نورَ الشَّمسِ الحَقيقيَّةِ، ألا وهي الرَّبُّ يَسوعُ المَسيح.

الروزنامةُ الكَنسِيَّةُ مَليئَةٌ بِهم، وهم مِن كُلِّ أقطارِ المَسكُونَةِ، كأنَّنا بِذلِكَ نَقرأُ آيةً من المَزامير: "فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ" (مز ٤:١٩). نعم، إنَّهُم القِدّيسونَ والقِدّيسات، إكليريكيّونَ وعِلمانِيّون، رُهبانٌ وراهِبَات.

في الأمسِ (٨ تشرين الأوّل)، أقَمنا، كَكُلِّ سَنةٍ، تَذكارَ القِدّيسِ Serge de Radonège سرجيوس رادونيج (١٣١٤-١٣٩٢م). هو قِدّيسٌ روسيّ، ذاعَ صِيتُهُ في العالَمِ أجمَع. فلِهذا القِدّيسِ الكَبيرِ مكانٌ رائدٌ في تاريخِ الشَّعبِ الرُّوسي، إيمانيًّا وثَقافيًّا ووَطَنيًّا.

كان قِدّيسنا أبًا روحيًّا مشهودًا له ورَجلَ صَلاةٍ ونُسك. فقد أَسَّسَ ديرَ الثَّالوثِ القُدُّوس، ودافَعَ بِقُوَّةٍ عَن الإيمَانِ المَسيحيّ، وحَرِصَ على تَثقِيفِ الشَّعبِ الرُّوسيّ، إذ ضَمَّ ديرُهُ مَكتَبَةً ضَخمَة.

وفي دَيرِهِ هذا، بارَكَ القِدّيسُ سرجيوس الأَميرَ Dimitri Donskoï، في دِفاعِهِ عن بِلادِهِ رُوسيَّا في وَجهِ التَتَار، وكان خَلفَ التَّصدِّي لَهم، فَشَكَّلَتْ معرَكَةُ Koulikovo، الانتصارَ الأوّلَ الكَبيرَ عليهم بَعدَ ١٥٠ سنةً مِنَ الاحتِلالِ للبِلاد.

لا نَستطيعُ التَّكلُّمَ على القِديسِ سِرجيوسَ، دُونَ أن نَذكُرَ كاتِبَ الأيقُوناتِ الشَّهيرَ أندريه روبليف Andreï Roublev (١٣٧٠- ١٤٢٨م)، الذي كان راهبًا في دير Andronikov قُربَ ​موسكو​، والّذي كتَب[1]، في العَقدِ الأخِيرِ مِن حَياتِهِ، أَيقُونَةَ الثَّالُوثِ القُدُّوسِ المَشهورَةَ جِدًّا، للدَّيرِ الّذي أَسَّسَهُ القِدّيسُ سرجيوس. وما زالَت هَذِهِ الأيقُونَةُ الرَّائِعَةُ تَشهَدُ بِإبدَاعِها الرُّوحِيّ قَبلَ الفَنِّي.

لنَتعرَّفْ قليلًا عَلَيها، طُولُها ١١٢سنتيمترًا، وعرضُها ١٤١سنتيمترًا. بَقيت في كنيسَةِ الدّيرِ إلى العام ١٩٢٩، حين أُخِذَت إلى مُتحَفِ Tretyakov في روسيّا وما زالَت فيهِ إلى اليوم.

مَن يَقِفُ أمامَها يَخالُ نَفسَهُ ناظِرًا مِن خِلالِ نافِذَةٍ إلى المَلكُوت، فينسى نفسَهُ هل هوَ مَوجُودًا على الأرضِ أم قدِ ارتَفَعَ إلى السَّماء. أهمّيتُها أنَّها تَجعَلُ المَرءَ يَرى جَمالًا ليسَ مِن هَذا العَالَم، وكَأنَّها تَقولُ لَه ما قَالَهُ اللهُ عِندما خَلَقَ الإنسان: "نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا"(تك٢٦:١).

نُلاحِظُ هنا أنّ الآيةَ أتَت بِصيغَةِ الجَمع، واللهُ هو المُتكَلِّم. إلهٌ واحِدٌ في ثلاثَةِ أقانِيم، وواحِدٌ في الجَوهَر. ونحنُ مدعوونَ جميعًا إلى أن نَتَّحِدَ بِاللهِ، وذلك بأن نَخلَعَ كُلَّ قَباحَةٍ لأنَّنا مَخلُوقونَ على صُورَتِه.

مِن أهدَافِ الأيقُونَةِ أن تُذَكِّرَنا بِأنَّنا أيقُونَاتٌ حَيَّةٌ لله، لهذا السبب يُبَخِّرُنا الكاهِنُ كما يُبَخِّرُ القُدُساتِ والأيقُونَات.

مَن يَنظُرُ إلى وُجوهَ القِدّيسينَ في الأيقُونَاتِ، يرى جَمالًا نُورانِيًّا بَهيًّا ساطِعًا، رَصِينًا وبَريئًا في آن. هذا كُلُّهُ لأنَّهُم خَلَعُوا عنهُم ما هُوَ فَانٍ، ولَبِسُوا الذَّهبَ الصَّافي الّذي يُعطِيهِ اللهُ لنا، كما أَشارَ هُوَ علينا:

"أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَبًا مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ، وَثِيَابًا بِيضًا لِكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ. وَكَحِّلْ عَيْنَيْكَ بِكُحْلٍ لِكَيْ تُبْصِرَ"(رؤيا ١٨:٣).

تُلَخِّصُ هذهِ الآيةُ مَسيرَةَ خلاصِنا. هذا ما جَاهَدَ مِن أَجلِهِ القِدِّيسُ سِرجيوس، وسَعى بِصِدقٍ وخَفَرٍ لِكي يَرتَدِيَ الثّيابَ البَيضاءَ الطَّاهِرَةَ، فلا يَقولُ لَهُ الرَّبُّ: "يَا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ؟" (متى ١٢:٢٢)، كما جَاءَ في مَثَلِ المَدعُوينَ إلى العُرس.

فالوِقفَةُ الحَارَّةُ أمامَ الأيقُونَةِ إعادَةُ تَكريسٍ لِحَياتِنا.

هذا ما يَنقُلُنا إلى جِدارِيَّةٍ أنطاكِيَّةٍ مِنَ القَرنِ الخَامِسِ الميلاديّ، لا تزالُ مَوجُودَةً في روما، في سانتا ماريا أنتيكا،Chiesa di Santa Maria Antica، بِالرُّغمِ مِن زِلزالٍ كَبيرٍ حَدَثَ في العام ٨٤٧م وَطَمَرَ مَكانَها. تُظهِرُ هَذِهِ الجِدارِيَّةُ والِدَةَ الإلهِ في الوَسَطِ وفي حِضنِها الرَّبُّ يَسوعُ المَسيح، وعَن يَمينِها القِدّيسَةُ حَنَّةُ وفي حِضنِها وَالِدَةُ الإله طِفلةً، وعَن يَسارِها القِدّيسَةُ أليصَابَاتُ، وفي حِضنِها القِدّيسُ يُوحنّا المَعمَدانُ يُشيرُ بِيَدِهِ اليُمنَى إلى الرَّب.

رُسِمَت هَذِهِ الجِدَارِيَّةُ مُباشَرةً بعدَ مَجمَعِ أَفسُس ٣٨١م، والّذي ثَبَّتَ استِعمالَ كَلِمَةِ والِدَةِ الإلهTheotokos في الكَنيسَة. وتَتميَّزُ العَذراءُ في هَذِهِ الجِدارِيَّةِ بِأنَّها جَالِسَةٌ على العَرشِ كإمبرَاطُورَة.

الجَميلُ في الأمرِ، كَما يُشيرُ الأب [2]Paul Walliker، في أُطروحَةِ المَاجستير عن هَذا المَوضُوعِ بِالتَّحديد، أنَّ مَكانَ وُجودِ هَذِهِ الجِدارِيَّةِ مُمَيَّزٌ جِدًّا وله أَهمّيتُهُ الكَبيرَة، إذ كانَ المَحَطَّةَ الأخيرَةَ قَبلَ دُخولِ الأباطِرَةِ القُصورَ الإمبراطُورِيَّةَ التي تُطِلُّ على المُنتَدى Forum.

​​​​​​​كما كانَ المَكانُ يُشَكِّلُ المَلجأَ الآمنَ للابتِعادِ عَنِ الحُشودِ عِندَ هَيجَانِها، وذلكَ لِوُجودِ نُقطَةٍ هامَّةٍ للحَرَسِ الإمبرَاطُوريّ فيها. وبَعدَ أن أَصبَحَ الإمبراطُورُ مَسيحيًّا، وأصبَحَتِ المسيحيَّةُ دينَ الدَّولة، رُسِمَتِ الجِدارِيَّةُ في هذا المَكانِ بَعدَ تَوسِيعِه، لِيَتحوَّلَ إلى مَكانِ عِبادَة. كما أَصبَحَ لاحقًا مَكانَ خَلوةٍ للبَابَوات.

ما هو المُشتَرَكُ بينَ كُلِّ ما ذُكِر؟

نحن نَهدِفُ إلى دُخولِ القَصرِ المَلكُوتيّ الإلهي، وعَلينا أن نَستَعِدَّ لِذلكَ ونَتهيَّأ بِالتَّوبَةِ والاتِّضاعِ والجِهادٍ المُستَقِيم. وعِندما تُهاجِمُنا الحُشودُ الشّريرَةُ عَدوَّةُ الإنسانِ، لن نَجِدَ مَكانًا آمِنًا يَحمِينا أَفضَلَ مِنَ الوُقُوفِ بِوَقارٍ أَمامَ الأيقُونَةِ، ونُصَلِّي بِخُشوعٍ وَسطَ المَلائِكَةِ الذينَ قال عَنهُم الرَّبُّ "الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ"(عبرانيين ١:٧).

هذا تمامًا ما كان يَفعلُهُ القِدّيسُ سِرجيوس رادونيج، وكُلُّ القِديسينَ قَبلَه وبَعدَهُ، والمَسيرَةُ تَستَمِرُّ.

هَلمَّ إلى المَلكُوتِ. إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] نَقولُ: "نَكتُبُ الأَيقونة" وليس "نَرسُم الأيقونة".

[2] Orthodox Journal Arts -JONATHAN PAGEAU ON JANUARY 15, 2014