"كسر الحصار" هو العنوان العريض الذي اختاره وزير الخارجية ال​إيران​ي ​حسين أمير عبد اللهيان​ لزيارته الأولى إلى لبنان، والتي استهلّها بكلام عالي السقف من مطار بيروت، جدّد فيه دعم إيران "الثابت" للبنان، معلنًا استعداد بلاده لمساعدته من أجل كسر ما وصفه بـ"الحصار الظالم الذي يتعرّض له في مثل هذه المرحلة الحسّاسة من تاريخه".

سريعًا، ترجم عبد اللهيان كلامه، فعلى هامش اللقاءات الرسمية التي عقدها مع مختلف الأفرقاء، كان التركيز منصبًّا على "ثابتة واحدة"، وهي أنّ إيران جاهزة لدعم لبنان، ولن تبخل عليه بشيء إذا طلبه منها، فكان الحديث المتكرّر عن مشروع إيران "الطموح" لتشغيل معملي كهرباء، بما ينقذ لبنان من أزمة الطاقة التي يتخبّط خلفها.

قد لا يكون محض صدفة أن يتزامن الطرح الإيراني المتجدّد في ظلّ استمرار التفاوض بين لبنان و​الأردن​ و​مصر​ و​سوريا​، للحصول على الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر الأراضي السورية، في خطوةٍ نالت "المباركة" سلفًا، كما يُقال، من ​الإدارة الأميركية​، التي كانت سفيرتها دوروثي شيا أول من منحتها "الضوء الأخضر".

لكنّها ليست صدفة أيضًا أن تأتي الزيارة بعد تصريحات لافتة لرئيس المجلس التنفيذي في "حزب الله" السيد ​هاشم صفي الدين​، بدت مثيرة للجدل، ولا تزال تخضع للفحص والدرس والتحليل حتى الآن في الكثير من الأوساط السياسية، خصوصًا أنّها بدت إيذانًا ببدء "معركة" جديدة يريد الحزب أن يخوضها في مواجهة الأميركيين.

ففي تصريحاته التي جاءت قبل يومين من زيارة عبد اللهيان، قال السيد صفي الدين، وهو المصنَّف سياسيًا على أنّه بمثابة "الرجل الثاني" في "حزب الله"، إنّ الأميركيين "أقوياء في الدولة اللبنانية ولديهم الكثير داخلها"، وأقرّ بأنّهم "يؤثّرون في لبنان سياسيًا وأمنيًا وماليًا واقتصاديًا". وذهب أبعد من ذلك ليلوّح بإطلاق معركة "إخراجهم من أجهزة الدولة"، ولو رهنها بـ"اليوم المناسب"، الذي سيشاهد اللبنانيون فيه "شيئًا آخر"، وفق قوله.

أثار كلام السيد صفي الدين هذا الكثير من علامات الاستفهام، فهناك من سأل عن "المقصود" بالرسائل "النارية" التي تُقرَأ بين طيّاته، وعمّا إذا كان الرجل يقصد أن يوجّه "رسالة" لجهاز محدّد، قد لا يكون "خافيًا" على المتابعين والمراقبين، وهناك من ذهب أبعد من ذلك ليسأل عن "الأجندة الخفية" التي يسعى "حزب الله" لتنفيذها في القادم من الأيام، وعمّا إذا كانت مواقف صفي الدين بمثابة "المقدّمة" لها، وثمّة في المقابل، بين هذا وذاك، من "قفز" بعيدًا في التحليل، ليستنتج رسالة "مستترة" من الحزب، إلى ​الجيش اللبناني​ تحديدًا.

بالنسبة إلى أصحاب هذا الرأي، فإنّ "حزب الله" أراد أن يعبّر عن رسالة "امتعاض" من التأثير الذي تمتلكه الإدارة الأميركية في المؤسسة العسكرية تحديدًا، خصوصًا في ظلّ ما يُحكى عن علاقات "متينة" استطاع قائد الجيش الحالي العماد جوزاف عون نسجها مع الأميركيّين، وهو الذي يُقال إنّه "يطمح" لرئاسة الجمهورية، ويعتقد أنّ واشنطن قد تكون "بوابته" لتحقيق مُراده، وهو ما لا ينسجم مع "أجندة" الحزب، الذي يعتبر واشنطن "عدوًا مثلها مثل ​إسرائيل​"، وهو أيضًا ما ورد على لسان السيد هاشم صفي الدين.

لكنّ المفارقة التي لفتت الانتباه في هذا السياق، كانت أنّ "حزب الله"، الذي "ينأى بنفسه" عادةً عن السجالات والنقاشات المرتبطة به، حرص، عبر أوساطه والمقرّبين منه، وعبر بعض الأقلام المحسوبة عليه والقريبة جدًا من بيئته، أو ربما المنتمية إليها، على نفي كلّ هذه التفسيرات والتحليلات، مؤكدة على "متانة" العلاقة بين المؤسسة العسكرية وقيادة "حزب الله"، المتمسّك بالمعادلة "الذهبية" في قاموسه، القائمة على "ثالوث" الجيش والشعب والمقاومة، وبالتالي فهو لا يمكن أن يفرّط بأيّ ركنٍ من أركانها، مهما كانت الأسباب.

ومع أنّ هذه الأوساط رفضت تحديد "هدف محدّد"، قصده رئيس المجلس التنفيذي في "حزب الله" بكلامه، موحيةً أنّه كان يتحدّث في "العموميّات"، إلا أنّها أوحت أنّ مناسبة الحديث كانت بكلّ بساطة "النقلة النوعية" التي حقّقها الحزب في مواجهة أزمة المحروقات التي شهدها لبنان أخيرًا، وذلك من خلال استيراد المازوت الإيراني، الذي شكّل حلقة أولى من مسلسل كسر "الاحتكار" الذي يُعَدّ جزءًا من "الحصار" المفروض على لبنان، وهو ما شكّل "تحدّيًا" للجميع، يعتقد الحزب أنّه "اجتازه بجدارة"، ولو أنّ نتائجه تبقى مؤجّلة.

لعلّ هذا المعنى "يتناغم" إلى حدّ بعيد مع الأهداف المُعلَنة، وحتى الخفيّة إن وُجِدت لزيارة وزير الخارجية الإيراني، الذي وجّه بدوره رسائل في غاية الأهمية بهذا الاتّجاه، ولو أنّ البعض يقلّل من شأنها، باعتبار أنّ الإيرانيّين سبق أن قدّموا الكثير من "العروض" للبنان على مدى السنوات الماضية، لكنّها لم تدخل حيّز التنفيذ، بسبب الانقسام اللبناني العموديّ، والخشية الرسميّة من العقوبات التي يمكن أن تُفرَض على لبنان، في حال تعامله مع إيران، من دون موافقة ​المجتمع الدولي​، وعلى رأسه الولايات المتحدة.

وإذا كان ما حصل في قضية المازوت شكّل "نموذجًا" يمكن أن يُعتمَد كـ"مَخرَج"، وفق ما يرى البعض، خصوصًا من الدائرين في فلك "محور المقاومة"، فإنّه من المُستبعَد أن تؤدّي زيارة الوزير الإيراني إلى إحداث أيّ "خرق" على هذا الصعيد، علمًا أنّ الانقسام تجلّى أيضًا على خطّها، بين الخطاب "الافتراضي" لجمهور "حزب الله" الذي لم يتردّد في "استفزاز" الخصوم، مقابل المسيرة الرافضة للزيارة عن بكرة أبيها، والتي لا تخلو هي الأخرى من عناصر "الاستفزاز" النافرة، في التعاطي مع مسؤول أجنبي يزور لبنان.

في النتيجة، يمكن القول إنّ رفع سقف التوقعات من زيارة عبد اللهيان، كما تصريحات السيد صفي الدين، لن يكون مجديًا، فالمواجهة التي أطلِقت، "افتراضيًا" ربما، تبقى "إعلامية" بالدرجة الأولى، خصوصًا على أعتاب انتخاباتٍ نيابية يعتقد كثيرون أنّ "حزب الله" سيخوضها تحت شعار "كسر الحصار"، في حملةٍ ربما تكون بدأت عمليًا منذ ما قبل زيارة وزير الخارجية الإيراني، ولن تنتهي بعدها، خصوصًا في ظلّ سعيه الحثيث أيضًا لإحياء العلاقة مع سوريا، في ظلّ ظروف يراها "مؤاتية" لذلك أكثر من أيّ وقتٍ مضى!.