لطالما شهدنا سابقاً تظاهرات وحشود شعبية عربية تجتمع للتنديد باسرائيل وبسياساتها وبأعمالها، كما تحذر من اي تعامل معها في اي مجال كان، ولطالما كانت تحثّ العرب على التقرب منها لتفتح نافذة تدخل منها الى الرئة العربيّة، بعد ان باتت ركناً اساسياً في الرئة الغربيّة والاجنبيّة. اليوم، بات الوضع مغايراً تماماً واصبح الاسرائيليون يسيرون في الشوارع الاسرائيليّة مندّدين بالتعامل مع الدول العربيّة ومحذّرين من مخاطر بيئيّة وغيرها، هذا الامر الذي رأوا فيه تهديداً لهم، فيما يقارب السياسيون الاسرائيليون الامر من باب المنفعة الاقتصادية والمالية الهائلة التي سيستفيدون منها من الاموال العربية.

بالامس، نزل اسرائيليون الى الشوارع للتظاهر ضدّ الاتفاق المبرم مع الامارات والقاضي بنقل النفط الاماراتي عبر اسرائيل، الى الدول الغربيّة. اعادني هذا المشهد الى ايّام الدراسة، حين كان الاساتذة في كلية الاعلام، يردّدون على مسامعنا كطلاّب انه حين يعضّ الكلب الانسان فهذا ليس بِخبر لأنه أمر طبيعي، انما الخبر هو حين يعضّ الانسان الكلب. هذا المثل يصلح في هذه الحالة، لانّه كانت تظاهرات العرب ضد اسرائيل بمثابة خبر طبيعي، أما تظاهر الاسرائيليين ضدّ التعامل والاتفاق مع العرب، فهذا هو الخبر غير الطبيعي. وعلى الرغم من كل الاختلاف مع الاسرائيليين ان من حيث العقيدة او من حيث مفهوم اغتصابهم الحقوق او من حيث التعاطي، الا انه لا يسعنا سوى احترام مايظهروه من تعبير للمحافظة على انفسهم وبيئتهم ومجتمعهم، غير عابئين بالمصالح السياسية والماليّة والاقتصاديّة. ولو تخيّلنا للحظة عما كان المشهد عليه لو كان الامر معكوساً، لوجدنا وللاسف، ان العرب لن ينزلوا الى الساحات للدفاع عن مواضيع تعود بالفائدة عليهم، انما يستميتون للدفاع عن مصالح المسؤولين والزعماء السياسيين في بلدانهم، حتى ولو كان الامر يصبّ في خانة الاذية لمستقبلهم ومستقبل اولادهم. اين هم العرب، كل العرب، في مواجهة الازمات المصيريّة التي اعترضتهم بالجملة، والتي انعكست بالتحديد على كل بلد عربي؟ هل يمكن لاحد ان يقول ان بلداً عربياً لم يتأثر بالاحداث التي عصفت في المنطقة على مدى السنوات الماضية؟ ان من ناحية الارهاب او من ناحية الخسائر العسكريّة والسّياسية والدبلوماسيّة؟ او حتى عبر الحروب التي فتكت ببعض الدول؟ اين هم من النزول الى الشارع للدفاع عمّا تبقى من مشاهد الوحدة والتضامن بين اعضاءالجامعة العربيّة التي باتت شاهد زور على التفرّق العربي والتشرذم الذي اصاب العرب بشكل عام؟.

لماذا يتظاهر الاسرائيليّون ضد اتفاق مرور النفط الاماراتي عبر الاراضي الاسرائيلية الى الغرب، فيما يتصارع العرب لمنع مرور نفطهم الى دول عربيّة اخرى؟ انقلبت الآية رأساً على عقب، وحين اعتقدنا جميعاً ان الصراع العربي-الاسرائيلي الطويل الامد سيضعف اسرائيل ويجعلها ترضخ للشروط العربية، حصل العكس تماماً، واصبح العرب يتهافتون للاتفاق معها والاعتراف بأنها صاحبة الحق والارض، ولها حق المنفعة من كل ما يترتب من حقوق وكأن الفلسطينيين باتوا غير موجودين، او انهم تحولوا الى حجر عثرة على طريق استعادة حقوقهم وارضهم ومصالحهم. لم يرضَ الاسرائيليّون حتى بجزء من الشروط التي كانت موضوعة على طاولة المفاوضات، كي يعترف بهم العرب، وحصلوا على ما ارادوا بأقل جهد ممكن وبالطريقة التي يريدون.

هنيئاً للاسرائيليين انتصارهم على الفكر العربي، وقدرتهم على تشتيت العرب والدفع بهم الى المكان الذي تريده اسرائيل والكفيل بتأمين حقوقها ومصالحها، ولن يكون مستغرباً بعد اليوم ان نشهد تظاهرات اسرائيلية تندد باتفاقات مقبلة مع العرب، واعتبارها بمثابة تهديد جدّي لـ"العادات والتراث" الاسرائيلي، فيما العرب يتلهّون بالتقاتل في ما بينهم ليربحوا لحظات من الانتصار الوهمي.