أخيرًا، وبعد طول انتظار، جرت الانتخابات النيابية المبكرة في العراق، لكن، وخلافًا لكلّ التعويل عليها، محليًا ودوليًا، جاءت وفق معظم التحليلات والقراءات، "دون سقف" التوقعات، سواء من حيث الإقبال "الضعيف" والحماسة "المفقودة"، أو من حيث النتيجة "المخيّبة" من خلال إعادة "إنتاج" الطبقة السياسية نفسها، رغم كلّ اتهامات الفساد.

في لبنان، ثمّة من اختار "التمعّن" في المشهد الانتخابي في العراق، على وقع بدء الاستعداد للانتخابات النّيابية المرتقبة العام المقبل، على أساس أنّه قد يشكّل "بروفا" لما هو مُنتظَر لبنانيًا، بعيدًا عن كلّ الشعارات المرفوعة عن "تغيير جذري" قد يؤسّس له الاستحقاق "الموعود"، ويبني عليه كثيرون باعتباره "مفتاح الحلّ" لكلّ الأزمات.

وإذا كانت الانتخابات النيابية تحوّلت في الأيام الأخيرة إلى "أولوية الأولويات" لبنانيًا، بعدما تعهّدت الحكومة بإجرائها في موعدها، ويُقال إنّ المجلس النيابي سيباشر دوره "التشريعي" على خط تعديل قانونها، بمجرد فتح دورته العادية الأسبوع المقبل، فإنّ الخشية، استنادًا إلى "نموذج" العراق، تبقى في أن تكون الانتخابات مجرّد "نقطة عبور"، لا أكثر ولا أقلّ.

فعلى الرغم من اتفاق الكثيرين على أنّ الانتخابات المقبلة "مفصليّة"، ولو أنّ هذا التوصيف فقد "وهجه"، بعدما بات مكرّرًا على كلّ الاستحقاقات، لدرجة "الاستهلاك"، يبدو مسلَّمًا به أنّ الواقع اللبناني "يتأثّر" بذلك العراقيّ، ربما لوجود الكثير من نقاط "التشابه" التي "تتقاطع" ما بين البلدين، وخصوصًا على صعيد الظروف السياسيّة المتقاربة.

ثمّة من يقول في هذا السياق إنّ لبنان يسير "على خطى" العراق منذ سنوات، ولعلّ مشهد "الانتفاضة الشعبية" في صيف 2019 خير دليل على ذلك، إذ ما كادت الاحتجاجات الشعبية تتفجّر في بغداد ضدّ المنظومة السياسية الحاكمة، حتى "تمدّدت" إلى بيروت بعد أيام قليلة، حيث نزل الناس إلى الشوارع، رافعين شعارات "التغيير" نفسها تقريبًا.

ولا شكّ أنّ "التقاطع" يستمدّ "جذوره" منذ ما قبل "الحراك الشعبي"، الذي ليس سوى "نتيجة" لسياسات تعاقبت في البلدين، وأدّت إلى "تعميم" نموذج "الفساد" إن جاز التعبير، حيث يتشارك شعبا العراق ولبنان "الشكوى" نفسها تقريبًا من أداء الحكومات المتعاقبة، والمرجعيّات السياسيّة التي تُحسَد عليها، والتي غلّبت منطق المحاصصة على الكفاءة.

ويمتدّ هذا "التقاطع" إلى السياسة، ففي لبنان والعراق، صراع "إقليميّ ودوليّ" على النفوذ، إن جاز التعبير، ينعكس تلقائيًا على الشؤون اليوميّة للمواطنين، من إيران إلى السعودية مرورًا بالولايات المتحدة، وسائر القوى الدوليّة الباحثة عن "دور" تلعبه، وتعتقد أنّ ساحتي البلدتين قد تشكّلان لها "البوابة المثاليّة" للدخول إلى المنطقة.

لكلّ هذه الأسباب والمقوّمات، يعتقد كثيرون أنّ "النموذج العراقي" الذي سجّلته الانتخابات الأحد، قد يتكرّر في لبنان خلال أشهر قليلة، إذ إنّ لا شيء يدفع إلى الاعتقاد أنّ الاستحقاق "الديمقراطي"، في المبدأ، سيكون "استثناء" على العلاقة "التشاركيّة" بين الدولتين، كما أنّ كلّ الظروف الموضوعيّة توصل إلى النتيجة نفسها.

صحيح أنّ "الرهان" على هذه الانتخابات كبير لبنانيًا، وربما إقليميًا ودوليًا أيضًا، وهو رهان قد يبدو في الظاهر منطقيًا وواقعيًا، إذ إنّ لا شيء "منطقيًا" في إعادة انتخاب طبقة سياسية أوصلت البلاد إلى "جهنّم"، ولا شيء يبرّر التجديد لمسؤولين أسهموا في تدهور الوضع، لحدّ افتقاد المواطنين لأبسط حقوقهم، من كهرباء وماء وبنزين ومازوت.

لكنّ "اللا منطق" قد يكون هو "سيّد المعادلة"، ولذلك لا يُتوقَّع أن تفرز الانتخابات المقبلة "التغيير الجذري" الموعود، تمامًا كما حصل في العراق، ولو أنّ الأوان لا يزال مبكرًا لإطلاق مثل هذه الاستنتاجات، التي قد يقرأها البعض "تعميمًا لليأس والاستسلام"، فيما يراها البعض الآخر "تحريضًا على الثورة على الذات" أولاً وأخيرًا.

لكن، في المنطق أيضًا، ثمّة عوامل عديدة تدفع إلى الاعتقاد أنّ الانتخابات النيابية المُنتظرة لن تؤدّي سوى إلى إعادة إنتاج المنظومة نفسها، لكن مع بعض الأضرار "الموضعيّة"، بصورة نسبية ومتفاوتة بين الأحزاب بطبيعة الحال، نتيجة بعض "الثورات" التي بدأت تظهر، حتى داخل أحزاب المنظومة، التي قد تشهد المزيد من "الانشقاقات".

لعلّ أهمّ هذه العوامل يتمثّل في القانون الانتخابي الذي جُرّب في عام 2018، والذي اعتبره الخبراء الانتخابيون منذ اللحظة الأولى "مفصَّلاً على قياس الطبقة السياسية"، في فرضيّة كرّسها "التطبيق" على أرض الواقع، حيث لم تنجح قوى المجتمع المدني في تحقيق "الخروقات" التي كانت تطمح إليها، ولو أنّها أثبتت حضورها.

يقول البعض إنّ ذلك بدا طبيعيًا نتيجة بعض "الثغرات" الموجودة في القانون، من النظام الانتخابي الذي "تحايل" المشرّعون على الناس حين وصفوه بـ"النسبي"، فيما هو أقرب إلى "الأكثري المقنّع"، فضلاً عن حجم الدوائر "المتفاوت"، والصوت التفضيلي، من دون أن ننسى الحاصل الانتخابي "المرتفع"، الذي أسهم في خسارة مرشحين "أقوياء".

رغم كلّ ذلك، هناك من يقول إنّ ظروف 2022 ليست كظروف 2018، وإنّ ما اختبره اللبنانيون خلال الأشهر القليلة الماضية وحدها، كافٍ لإحداث "الانقلاب" على المنظومة، خصوصًا أنّ كثيرين ممّن لطالما كانوا "محازبين"، ولا سيّما من فئة الشباب، خلعوا "الثوب الحزبي"، ويتأهّبون للانتخابات من موقع مستقلّ، وهؤلاء قادرون على إحداث التغيير.

لا شكّ أنّ كلّ "السيناريوهات" تبقى واردة، علمًا أنّ المهلة الفاصلة عن الانتخابات لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات، حتى إنّ هناك من يدعو إلى "التريّث" في إطلاق الأحكام والاستنتاجات، باعتبار أنّ الاستحقاق كلّه قد لا يحصل إذا ما شعرت الطبقة السياسية بأيّ تهديد، أيًا كانت الظروف والموانع!.