إذا كان من المُمكن فهم تهرّب كلّ من الوزراء والنوّاب والمسؤولين من المُثول أمام المُحقّق العدلي القاضي طارق البيطار، على إعتبار أنّهم يخشون توقيفهم ورميهم في السجن، فإنّه من غير المَفهوم الحملات العنيفة التي تُشَنّ على تحقيقات البيطار من قبل العديد من الجهات، وفي طليعتها، "حزب الله" وأمينه العام السيّد حسن نصر الله شخصيًا. فلماذا هذه الخشية من نتائج تحقيقات إنفجار المرفأ، وما هي الحقيقة المَخفيّة وراء إنفجار الرابع من آب المُدمّر؟!.

كما كان مُتوقّعًا، رفض النائب علي حسن خليل الحُضور أمام قاضي التحقيق العدلي كمُدّعى عليه، وقبل أن ينسحب الموقف نفسه على كلّ من النائبين غازي زعيتر ونهاد المشنوق المَطلوبين للتحقيق أيضًا، شأنهما شأن رئيس الحكومة السابق حسّان دياب، تمّ كفّ يد القاضي البيطار عن الملفّ لمرّة أخرى بالوسائل القانونيّة، وذلك غداة قيام أمين عام "حزب الله" برفع مُستوى تحذيراته إزاء قضيّة إنفجار المرفأ، حيث دعا مجلس القضاء الأعلى إلى التدخّل سريعًا لوقف ما أسماه "التسييس الفاضح" الذي يُحيط بعمل المُحقّق البيطار، مُحذّرًا من أنّ الأمور تسير بإتجاهات مُقلقة، ومُتهمًا البيطار بالعمل "من أجل خدمة مشروع لا يهدف إلى كشف الحقيقة وتحقيق العدالة". وإزاء ما تقدّم يُمكن تعداد المُلاحظات التالية:

أوّلاً: إذا كانت الأسئلة التي تُوجّه إلى القاضي البيطار عن إستنسابيّة في إستدعاء بعض المسؤولين دون سواهم مُحقّة، لأنّ العدالة لا يُمكن أن تتجزّأ، فإنّ رد المُدافعين عن البيطار تتحدّث عن وُجوب إنطلاق التحقيقات من مكان ما، وعن نيّة في إستدعاء كلّ المُتورّطين، لكن بشكل تدريجي وتتابعي في ضوء تقدّم التحقيقات، حيث من غير المُمكن عمليًا أن يستدعي المُحقّق العدلي عشرات الوزراء والنوّاب والمسؤولين الأمنيّين والقضائيّين والإداريين، دُفعة واحدة!.

ثانيًا: إذا كانت الأسئلة التي تُوجّه إلى القاضي البيطار عن أنّه يُركّز في تحقيقاته على مسؤولين مُتّهمين بالإهمال الوظيفي، بدلاً من الغوص في معرفة من جلب نيترات الأمونيوم إلى لبنان ولصالح أيّ جهة، ومن أفرغها ومنع التخلّص منها بسرعة، ومن إستفاد من وجودها على أرض المرفأ، إلخ. مُحقّة أيضًا، فإنّه من المُستغرب هذا الدفاع المُستميت عن هذه الفئة من المُتهمين، علمًا أنّه لوّ سلّمنا جدلاً أنّه سيتمّ إدانة أيّ منهم، فإنّ عُقوبة الإهمال الوظيفي في القانون اللبناني مُخفّفة جدًا!.

ثالثًا: إذا كانت الأسئلة التي تُوجّه إلى القاضي البيطار عن توجّس لدى بعض الجهات، وفي طليعتها "حزب الله"، من مساع وضُغوط خارجيّة لحرف التحقيق عن وجهته، خدمة لمشاريع سياسيّة، قد تكون مُبرّرة من قبل طارحيها، فإنّه من المُستغرب كبر حجم هذه الخشية المُسبقة من أن يصل التحقيق إلى إدانة "حزب الله"، ومن المُستغرب أيضًا التحذير من حُصول فتنة ومن تفلّت الأمور، في حال بقي مسار التحقيق الحالي على ما هو عليه، علمًا أنّ التجارب السابقة، لا سيّما مع جريمة إغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، وما رافقها وتلاها من إتهامات ومن إدانات وأحكام، أثبتت أنّ "حزب الله" لا يُبالي بأيّ إدانة، ولا يُسلّم أيّ مُتهم، ويُدرج فورًا أيّ إتهام بحقّه في خانة إستهداف "محور المُقاومة"، وأظهرت أيضًا أنّ "الحزب" قادر على طيّ صفحة أيّ إتهام له وكأنّه لم يكن، من دون أن تحصل أيّ ردّة فعل مُقابلة!.

وممّا سبق، يُمكن القول إنّ القضيّة أبعد من مُجرّد مُمطالة وتسويف، وُصولاً إلى تاريخ 19 تشرين الأوّل، موعد بدء العقد الثاني لمجلس النوّاب، الأمر الذي يعني تحصّن النوّاب المَطلوبين إلى التحقيق خلف حصاناتهم أكثر فأكثر، وإصرارهم على إعتبار المجلس الأعلى لمُحاكمة الرؤساء والوزراء والنوّاب، المرجع الحصري لمُحاكمتهم. فالقضيّة على ما يبدو تُخفي حقيقة مُعيّنة، لا يريد أكثر من طرف داخلي كشفها، لأنّ ضررها المَعنوي عليه كبير جدًا.

وبالتالي، المَطلوب منع إستكمال التحقيق في قضيّة إنفجار مرفأ بيروت بأيّ ثمن، وما يحصل حاليًا من هجمات سياسيّة-إعلاميّة على القاضي البيطار، بالتزامن مع تحريك مجموعة لا تنتهي من الدعاوى القانونيّة ضُدّه، ومع عرقلة تحقيقاته بشكل مُتسلسل من أكثر من جهة، تمهيدًا لتنحيته كليًا عن الملفّ، يصبّ في هذا الإتجاه، ويأتي إستكمالاً لعمليّة "تطيير" المُحقّق العدلي السابق فادي صوّان. وكالعادة، لا حقيقة تظهر في أغلبيّة الجرائم الكبرى في لبنان!.