لم تتمّ الحكومة شهرًا واحدًا منذ نيلها ثقة البرلمان، حتى ضربتها رياح "الانقسام"، التي تجلّت أكثر من واضحة في اليومين الماضيين، وأدّت إلى "تعليق" جلسة لمجلس الوزراء على خلفيّة نقاش حامٍ وساخن كان "بطله" من دون منازع، المحقّق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت القاضي ​طارق البيطار​، في ظلّ استمرار "الحملات" ضدّه، وسط اتهامات تُوجَّه له بـ"تسييس" التحقيق، وحرفه عن مساره السليم.

ففي وقتٍ كان البعض يستغلّ فرصة ذكرى مرور شهر على ولادة الحكومة، بعد أكثر من سنة من الانتظار، لتقييم عملها، الذي يراه كثيرون "مخيّبًا" حتى الآن، نظرًا لغياب الإنجازات، بل اعتماد سياسة "ترحيل" الملفّات الحسّاسة والأساسيّة، وعلى رأسها الكهرباء، جاءت جلسة الحكومة الأخيرة لتفضح وجود "انقسام جوهري" بين مكوّنات الحكومة، يكاد "يفجّرها" من الداخل، تمامًا كما فعل سابقًا مع سواها.

ورغم أنّ المعنيّين حاولوا التقليل من شأن "الانقسام"، كما فعل وزير الإعلام ​جورج قرداحي​، الذي سعى لبثّ أجواء "وردية"، عبر حديثه عن "نقاش إيجابي وودّي"، ونفيه كلّ ما يثار عن "متاريس" داخل الحكومة، لم يبدُ خافيًا على أحد أنّ "شهر العسل" الحكوميّ لم يدُم طويلاً، بل ربما كان هذه المرّة "اسمًا على مسمّى"، بحيث صمد شهرًا واحدًا، بغياب أيّ مؤشّرات على أنّه قابل للتجديد في الوقت الحاليّ.

قد يكون "نافرًا" لكثرين أن يكون "اللغم" الأول الذي اصطدمت به الحكومة هو النقاش حول أداء المحقّق العدلي، والبحث في إمكانيات "عزله"، أو "قبعه" وفق التعبيرالمُتداوَل في الأوساط السياسية، في وقتٍ لم تنجز الحكومة حتى الآن الحدّ الأدنى من الأمور التي قالت إنّها ستشكّل "أولويتها"، والتي تبقى "مرهونة" على ما يبدو بانتظار "نضوج" صورة المفاوضات مع ​صندوق النقد​ الدولي.

ولعلّ ما يبدو "نافرًا" في السياق أنّ أزمة الكهرباء، التي يُقال إنّ الحكومة غير "موحّدة" إزاءها، والتي بلغت "ذروتها" الأسبوع الماضي، مع انقطاع شبكة الكهرباء بالكامل عن كل الأراضي اللبنانية، مع توقف أكبر معملين عن الإنتاج، لم تكن هي "المطبّ الأول" للحكومة، ربما بعد "التوافق" على معالجتها وفقًا للطريقة التقليدية، من خلال حلول ترقيعيّة ومسكّنات، من شأنها تأجيل المشكل، لا أكثر ولا أقلّ.

عمومًا، فإنّ الأكيد أنّ "الإنجاز" الذي حقّقه القاضي البيطار كان بأنّه أحدث "انقسامًا" داخل الحكومة بين فريقين أو ربما ثلاثة، الأول قوامه ثنائي "حزب الله" و"حركة أمل"، ومعهما الحلفاء وعلى رأسهم تيار "المردة"، ليس مستعدًا للخوض في أيّ نقاش لا تكون نتيجته استبدال القاضي البيطار، رغم وجود رأي قانوني يقول إنّ الحكومة لا تملك صلاحيّة عزل المحقّق العدلي أساسًا، ولو كان وزير العدل هو الذي يعيّنه.

ويُقال إنّ الأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​ هو الذي مهّد للسجال الناريّ داخل مجلس الوزراء بكلمته الأخيرة، التي رفع فيها السقف ضدّ القاضي البيطار إلى أعلى درجاته، متّهمًا الأخير لا بالتسييس فحسب، بل بأنه أصبح يتعاطى على أنّه "الحاكم بأمره"، داعيًا مجلس القضاء الأعلى والحكومة إلى التحرك في وجهه، "طالما أن لا محكمة تريد البت بطلبات الرد وكفّ يده عن الملف".

وإذا كان هذا الفريق يستند إلى كلام السيد نصر الله، ليضع الحكومة أمام خيار لا بديل له، فإنّه "يصطدم" بحليف "حزب الله"، "التيار الوطني الحر"، الذي يرفض ما يعتبرها "حملة ممنهجة" على المحقق العدلي، ويدعو لتركه يعمل، على أن يُبنى على الشيء مقتضاه، بعد أن يُصدِر قراره الاتّهامي، وفقًا للأصول القانونية، وقد عبّر رئيس "التيار" الوزير السابق ​جبران باسيل​ عن هذا الموقف "المبدئي" في أكثر من مناسبة.

وبين هذا وذاك، يقف فريق ثالث، لعلّ رئيس الحكومة ​نجيب ميقاتي​ من ضمنه، حيث يبدي "تحفّظًا" على أداء المحقّق العدلي، وما يعتبرها "استنسابية" في أدائه، من خلال ادّعائه على شخصيات و"تطنيشه" أخرى أقرت بأنها "كانت تعلم" بالمواد المخزّنة في المرفأ، لكنه لا يصل في "المواجهة" إلى حدّ العمل على "عزل" القاضي، لاعتقاده بأنّ الأمر ليس في مصلحة أحد، فضلاً عن كونه يرسل رسالة شديدة السلبية إلى المجتمع الدولي، قد تنعكس سلبًا على الحكومة المتعلّقة بـ"قشّة" الدعم الدولي المأمول.

إزاء كلّ ما سبق، ثمّة علامات استفهام بالجملة تُطرَح حول "السيناريوهات" المتوقّعة على خط "التباين" الحكومي، فهل ينتهي "حبيًا" على الطريقة اللبنانية، ومن خلال "تفهّم" كلّ فريق لموقف الآخر؟ وهل يقبل "حزب الله" الذي حوّل المعركة مع المحقق العدلي إلى "مواجهة شخصيّة" بمثل هذا الخيار، الذي قد يشكّل في مكانٍ ما "انكسارًا" له، بعد الدعوة الصريحة التي وجّهها السيد نصر الله إلى الحكومة للتحرك؟ وقبل هذا وذاك، أيّ تداعيات متوقّعة على الحكومة، وهل خيار اعتكاف الوزراء وارد؟

حتى الآن، تبدو الصورة ضبابية وغير واضحة، وإن كانت الترجيحات تميل إلى وضعها في خانة "الاختلاف الذي لا يفسد في الود قضية"، لا لشيء إلا لأنّ لا أحد في الحكومة يجد "مصلحة" في "ضرب" مجلس الوزراء، قبل أن يبدأ العمل بشكل جدّي، ولا سيما أنّ الكلّ يدرك أنّ "محاصرة" الحكومة ليست خيارًا، وطالما أنّ مهمّتها الأساسيّة لا تزال محدّدة باستكمال المفاوضات مع صندوق النقد، وإجراء ​الانتخابات​ النيابية.

وفي حين يتحدّث البعض عن "مقايضة" يقدمّها "حزب الله" لـ"التيار" عبر موافقته، أو بالأقلّ عدم ممانعته تصويت المغتربين في الانتخابات، خلافًا لموقفه "المبدئي" القائم على انعدام "تكافؤ الفرص"، في مقابل موقف "مماثل" ينتظره من الأخير في موضوع التحقيقات ب​انفجار المرفأ​، فإنّ مثل هذا الموقف "مُستبعَد" من جانب "العونيّين"، وإن كان البعض يتّهمهم بعرقلة التحقيق أيضًا، من خلال رفض منح القاضي إعطاء الإذن بملاحقة مدير عام أمن الدولة اللواء أنطوان صليبا.

في النتيجة، فضحت "قضية" المحقق العدلي وجود أكثر من "أزمة" في الحكومة، وفي المنظومة السياسية برمّتها، أولها غياب "التجانس" داخل الحكومة، وجهوزيّة مكوّناتها لافتعال أيّ "معركة" في خضمّ كلّ الأزمات التي ينبغي عليها معالجتها، أما الثانية والأهم، فتبقى "أخلاقية"، وتتعلق بالإصرار على التدخل في عمل القضاء، وهو "جرم" يرتكبه المشوّشون على عمل القاضي، وكذلك "المهلّلون" له الذين يضرّونه أكثر ممّا ينفعونه!.