لم يكفِ لبنان جريمة انفجار ​مرفأ بيروت​ التي هزّت تردادها العالم أجمع، وها هو اليوم أمام انفجار من نوع آخر لا يقل خطورة عن الانفجار الاول، وعنوانه: المحقّق العدلي في القضية القاضي ​طارق البيطار​. لم يتمّ بعد تحديد صفة هذا القاضي بشكل حاسم، فهو بالنسبة الى البعض بطل قرر مواجهة الجميع من اجل كشف الحقائق، وبالنسبة الى البعض الآخر هو شيطان يحمل معه عوامل تفجير لبنان لتحقيق ما لم تحقّقه كل انواع الحصار الاقتصادي والمالي والدبلوماسي، والخلافات بين الدول. الغريب في لبنان انه بلد لا يعترف بالقوانين والانظمة ولا يسير بها، الا انه يتعلق بشكلياتها حتى الموت، ويلجأ الى الدساتير والقوانين حين يشاء، لخدمة الاهداف والغايات فقط لا غير.

اليوم، وُضعت جانباً كل المعاناة والمآسي اليومية للمواطنين والاولويات التي كانت على مدى اكثر من عام ونصف هي الاساس في كل القرارات والمواضيع والخلافات الفرديّة بين الاطراف، ولم يعد هناك هم للكهرباء والوقود والنفط والمأكل والمشرب والارتفاع الجنوني للدولار، بل انحصر الهم فقط في كيفية ايجاد حل لمسألة القاضي البيطار. وما يزيد الامور تعقيداً ان الحكومة الجديدة التي اخذت على عاتقها وضع لبنان على طريق الحل لمشاكله، وقعت في مستنقع قضائي وهي التي تتمتع بأكبر تمثيل قضائي فيها، وغالبية وزرائها هم من اصحاب الاجازات والدراسات العليا في المحاماة والقانون، فهل فعلاً يمكن القول ان هذه الحكومة عاجزة عن التعاطي مع قضية القاضي البيطار وفق ما يمليه ​الدستور​ والقوانين، ام ان هناك ما يحفى في هذه القضية؟.

الحقيقة ان المسألة اكبر من مشكلة قضائية، فالحكومة قادرة على معالجة هذا الملف من دون تخطي القوانين ولا مبدأ الفصل بين السلطات، وليس هناك من حاجة لاحد ان يحاضرها بمواد وبنود قانونية في هذا المجال، ولكن الموضوع ليس قانونياً بل يرده كثيرون الى... الانتخابات النيابية. ويؤكد هؤلاء انه لو كان موعد الانتخابات قبلاً وتم هذا الاستحقاق بالفعل، لما كنا اليوم امام مشهد مماثل حتى ولو ان القضية هي بحجم مأساة مرفأ بيروت، ويعتبرون ان الهدف الاساسي هو تحقيق المكاسب الانتخابية شعبياً، فلا من يؤيّد القاضي البيطار يهمّه الوصول الى الحقيقة وارضاء اهالي الشهداء الذين سقطوا، ولا من يعارضه يهمّه معرفة من السبب وكيفية حصول هذا الانفجار ومن وراءه، وان الامر يقتصر فقط على تسجيل النقاط وتبييض الصفحات امام الرأي العام، تمهيداً لاستقطاب اكبر عدد ممكن من الاصوات.

ويجزم هؤلاء على سبيل المثال، ان ​حزب الله​ لا يتأثر سياسياً او شعبياً باتهامه بالانفجار (فيما لو صحت التسريبات عن نيّة القاضي البيطار توجيه مثل هذا الاتهام اصلاً)، لأنّ الظروف الاقليميّة والدوليّة جنحت لصالحه في الفترة الاخيرة، ولا يمكن تثبيت الاتّهام وصولاً للإدانة، كما سبق وتمّ اتهامه باغتيال رئيس الحكومة السابق ​رفيق الحريري​ ولا تزال المحكمة الدوليّة في هذه القضيّة قائمة، من دون ان يتأثّر عملياً بما يصدر عنها. وبالتالي، لا لزوم للحزب للاستبسال في قضية ​انفجار المرفأ​، لأنّه قادر ببساطة وليس عبر التصعيد، على زرع الشكوك واضعاف القرار الاتهامي (إذا صدر) قانونياً وقضائياً، ولكن حرارة الانتخابات حالياً جعلته في موقع المواجهة الشرسة الى حدّ وصف المسألة من قبل مؤيّديه على أنّها مماثلة لقرار المسّ بـ"شبكة اتصالات ​المقاومة​" عام 2008.

وفي السياق نفسه، يمكن وضع قرار رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ برفع الوتيرة الى حدّها الاقصى في هذا الملفّ، فهو الّذي كان يربط مصير لبنان بتشكيل الحكومة والاسراع فيها، ولم يأتِ يوماً على ذكر اهمّية ومصير ملفّ الانفجار ومدى ارتباطه ببقاء لبنان او عدمه، فيما هو اليوم رأس حربة المهدّدين والمتوعّدين بـ"النّهاية" اذا لم تحصل تغييرات جذرية بالمسار القضائي للملفّ.

وما يصحّ بالنسبة الى حزب الله وامل، يصحّأيضًاً بالنسبة الى الاطراف الاخرى المدافعة عن القاضي البيطار، والتي يهمّها إظهار أنّها مدافعة عنه وعمّا يقوم به، كي تحظى بتعاطف شعبيّ اكبر. كلّ هذا يدلّ على أنّ مصير الحكومة معلّق بالانتخابات وليس بأيّ شيء آخر، إذ ليس من الصعب تخطّي أزمة المحقق العدلي التي قد تصبح من الماضي في غضون اقل من 24 ساعة، ولكن الاهم اثبات الوجود في الانتخابات، والحصول على نسبة التمثيل الاكبر حين يحين الموعد، والا...