لم تنتهِ "الحرب" المستجدّة بين "حزب الله" و"القوات اللبنانية" فصولاً بعد، بعدما أطلقت شرارتها الأحداث الدمويّة التي شهدتها مستديرة الطيونة الأسبوع الماضي، عندما تحوّلت إلى "ساحة حرب"، على هامش التظاهرة التي كان أنصار "حزب الله" و"حركة أمل" ينظّمونها، تنديدًا بالمسار الذي ينتهجه المحقق العدلي في جريمة تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، والإجراءات التي يتّخذها ضد عدد من المسؤولين.

خلافًا لما اعتقده كثيرون، بدا أنّ كلّ "الصدى" التي تركته تلك الأحداث حتى موعد كلمة الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله ليل الإثنين، كان بمثابة "المقبّلات" التي تسبق "الطبق الرئيسي"، إذ يمكن القول إنّ "الحرب" بدأت عمليًا مع تلك الكلمة التي وُصِفت بـ"غير المسبوقة" لا في الشكل ولا في المضمون، وقبل ذلك في "الحجم" التي أعطته لرئيس حزب "القوات اللبنانية"، ولو حرص نصر الله على عدم "التلفّظ" باسمه بالمُطلَق.

لكنّ الكلمة التي أثارت "ضجّة واسعة" في الأوساط السياسية، فتحت نقاشًا قد لا يسهل إقفاله في المدى المنظور، ومعه سلسلة من علامات الاستفهام التي قد تبقى هي الأخرى بلا أجوبة، فأيّ أفق لهذه "المعركة" بين "حزب الله" و"القوات اللبنانية"؟ ولماذا "يستنفر" الحزب، عبر أمينه العام، لهذه الدرجة في المواجهة؟ وألم يكن غريبًا أن يحضر "الحقل المعجمي" للحرب مع العدو في خطاب "داخليّ"؟ ولماذا اعتبره البعض "هدية مجانية" لجعجع وحزبه؟.

بمُعزَلٍ عن الإجابات على هذه الأسئلة، فإنّ الأكيد أنّ خطاب السيد نصر الله الأخير "غير مألوف" في مسيرة الحزب، ولا في مسيرته الشخصيّة، بعدما حضرت على خطّه عبارات "قدح وذمّ" لم يقلها سابقًا إلا في حضرة "العدو الإسرائيليّ"، لا سيما عندما وصف رئيس حزب لبناني بـ"المجرم والسفّاح والتقسيمي"، ولو استند إلى أنّ الأخير، بعيدًا عن السياسة، مُدان من جانب القضاء اللبناني الذي يدافع عنه، وأنّه حرّ طليق بفعل "عفو" من البرلمان، لا "حكم براءة" صادر عن المرجعيّات المختصّة.

لكنّ كثيرين يعتقدون أنّ نصر الله لم يكن "موفَّقًا" بهذه المقاربة، لتبرير مخاطبة جعجع بهذا الشكل، وهو صاحب حيثيّة في الشارع المسيحيّ، ولديه كتلة نيابية "تتخطّى" حجم كتلة "حزب الله"، خصوصًا أنّ جعجع، ولو أدين حيث لم يُدَن غيره، لم يكن "أمير الحرب" الوحيد، إن جاز التعبير، وذلك بشهادة القاصي والداني، والكثيرون من "شركائه" هم من أقرب المقرّبين لـ"حزب الله"، بل من حلفائه "الصدوقين"، والذين يرسم تحت أسمائهم عشرات الخطوط الحمراء.

بعيدًا عن هذه النقطة، يعتبر المقرّبون من "حزب الله" أنّ خطاب السيد نصر الله كان واقعيًا وطبيعيًا، وأنّ "الواهم" هو من كان يعتقد أنّه سيمرّر "كمين الطيونة"، وفق توصيف "الحزب"، ويلجأ إلى "التهدئة" في خطابه، لا سيما وأنّ جمهوره "لم يبلع" ما حصل، وهو ما عاد قادرًا على السكوت، بعد سقوط "الدماء البريئة" التي تتمّ "لفلفتها" في كلّ مرة، بعناوين برّاقة من نوع "السلم الأهلي" وما شابه، وبالتالي فإنّ "التصعيد" كان تحصيلاً حاصلاً، وقد مهّدت له كلمات قياديي ونواب الحزب في الأيام الماضية.

لكن، إذا كان السيد نصر الله اختار أن "يخاطب" المسيحيين مباشرةً، ولا سيّما "المنصفين" منهم، فإنّه وفق ما يرى في خصومه، وقع في "ثغرة" لم يحسب لها حسابًا، وهي أنّه، بمسعاه لـ"التجييش" في صفوف جمهوره، نجح في "دغدغة مشاعر" الكثيرين، حتى ممّن لا يؤيدون "القوات" سياسيًا، فوجدوا أنفسهم تلقائيًا يصطفّون إلى جانبها، في مواجهة حزبٍ يسعى إلى "التمرّد" على الدولة، ويريد "فرض" رأيه المُطالِب بالإطاحة بالقضاء، وتوصيف الفرض هذا ليس للخصوم، بل لـ"حليف" الحزب المسيحيّ الأول، الوزير جبران باسيل.

يقول هؤلاء إنّ ما لم يتنبّه له نصر الله أنّ باسيل كان "الخاسر الأكبر" من خطابه التصعيديّ في وجه "القوات اللبنانية"، والذي حوّل فيه جعجع من "مجرم وسفّاح" كما وصفه، إلى "بطل قوميّ"، ما جعله "يترفّع" عن الردّ حتى إشعارٍ آخر، مستغلاً "فرصة تاريخية" قد لا تتكرّر مرّة أخرى عمّا قريب، فكيف إذا كانت على أبواب انتخابات نيابية، بدأ التحضير لها عمليًا، بكلّ الأساليب والطرق الممكنة، ولا يريد منها جعجع سوى تحقيق "الانتصار" على باسيل، وقد قدّمه له السيد نصر الله على "طبق من فضّة"، وفق أصحاب هذا الرأي.

يذهب هؤلاء أبعد من ذلك للاستدلال على "صوابية" هذا الرأي، بالعودة إلى الخطاب الذي ألقاه باسيل في ذكرى 13 تشرين، بعد أحداث "الخميس الأسود". فعلى الرغم من هجومه على جعجع، وتبنّيه رواية "حزب الله" حول مسؤوليّته عن "جريمة الطيونة"، إلا أنّه لم يصطفّ إلى جانب الأخير بالمُطلَق، لإدراكه "الأضرار" التي ستترتب على ذلك، حتى إنّه اضطر إلى "التناغم" مع رواية "القوات" حول جذور "الإشكال"، عبر رفض "الممارسات الاستفزازية" التي قام بها بعض من المتظاهرون، الذين "اجتاحوا" عين الرمانة.

باختصار، يرى كثيرون أنّها معركة "بلا أفق"، لكنّها قد تكون مفتوحة على كلّ الاحتمالات في قادم الأيام. لم يكن متوقَّعًا من "حزب الله" السكوت عمّا حصل، ووضع حدّ للتصعيد، لكن لم يكن متوقَّعًا منه أن يصل الأمر إلى الحدّ الذي وصل إليه، وصولاً إلى الكشف عن "عديد" الحزب، في معرض التحذير من "الانجرار" نحو حرب أهلية، ولو جاء ذلك في سياق تحذير جعجع من "مغامرة غير محسوبة".

وتمامًا كما أنّ لجوء "حزب الله" إلى "الخطاب الحربي" الذي يمتهنه جيّدًا، لم يكن متوقّعًا، فإنّ "الاصطفاف" المسيحيّ المستجدّ بدا خارجًا عن المألوف أيضًا. فإذا كانت الحرب الأهلية منبوذة، إلا أنّ "تفاهم مار مخايل" بدأ يترنّح، لدرجة أنّ باسيل نفسه أصبح من المطالبين بمراجعته وإعادة النظر به، في مرحلة قد تكون "حاسمة" للطرفين على أكثر من مستوى، ولو أنّ العارفين يؤكدون أنّ "المصلحة" تفرض بقاءه، رغم كلّ شيء.

في النتيجة، تبقى "كلمة السرّ" الوحيدة التي من شأنها تفسير التطورات "الدرامتيكية" للأيام القليلة الماضية، "إنّها الانتخابات يا عزيزي". بهذه البساطة الشديدة، يصبح التجييش مبرَّرًا، بالانتخابات التي ثبّت البرلمان بالأمس موعدها في أواخر آذار المقبل، انتخابات يبدو أنّها ستتحكّم بالشاردة والواردة في الأسابيع المقبلة، مهما بلغ حجم المخاطرة بمصير العباد والبلاد على الطريق نحوها!.