غنّى الشّاعر اليونانيّ هزيود "العصر الذّهبيّ"، عندما كان واقعه مريرًا قاسيًا لا يحتمل! فاستعاض عنه بالهروب، بالخيال، نحو ماضٍ لا جدوى منه، ولم يعد إلى الوراء من أجل استعادة النّخوة والقوّة في مواجهة الحاضر، إنّما لأخذ جرعات تخدير ليفقد الوعي ويبدّله بوعي زائف.

نعم! ما من عصر ذهبيّ؛ فما أسماه هزيود بالعصر الذّهبيّ هو نفسه ما أطلق عليه علماء الآثار في ما بعد "العصر الحجريّ". إنّ فكرة الهروب بالذّاكرة من الحاضر المؤلم إلى ماضٍ متخيَّل لشحن الحاضر بالأمل والرّجاء من أجل انطلاقة أفضل من مقدرات العقل. والعودة إلى الجذور، والاهتمام بها لنضارة الحاضر وتجويد ثماره المستحبّة، إنّما ليست إحيائيّة بمعنى استدعاء الماضي إلى الحاضر، فنحن في أفقين مختلفين بالكامل، فما من أمل في الإحيائيّة سوى خسارة الحاضر فلا من قدرة لنا على الإحاطة بالماضي، ولا حتّى استرجاع أكثر من ومضات سديميّة لا تقارن بالواقع. من البديهيّ أن تتكاثر الأزمات على الإنسان عندما يغترب عن نفسه، ويفقد كلّ شجاعة وقوّة في الحياة ولها، وتتغبّش أمامه رؤية المستقبل، أو أنّه لا يرى بصيص أمل في المستقبل، ويرمي بنفسه وبشعوره في ماضٍ بعيد، ويجعله ذهبيًّا، ولو كان حجريًّا.

إنّ الاستبداد في لبنان والتّناقضات الحاصلة مع مختلف الأفرقاء والأحزاب ضمن المحراب الواحد قاتل. ولم يتمّ الشّفاء الكامل من الماضي الأليم، ولم يتمّ تعقيم الجراح وتطهيرها، حتّى التّاريخ المعاصر لم يتمّ الاتّفاق، أقلّه على منهجيّته؛ فلكلّ فرقة أومجموعة تاريخ خاصّ، وهي تدّعي احتضان الحقيقة! وأسوأ ما في الماضي أنّه كان قاتلًا بكلّ معنى الكلمة. فهل ثمّة حرب أشدّ بشاعة ممّا يسمّى بالحرب الأهليّة؟ ما زال معوّقو الحرب على قيد الحياة، وما زال من عاش مأساة اليتم والتّهجير في مقتبل الحياة شهداء أحياء. فهل من عائلة لبنانيّة لم تتشظَّ ولم تنل منها المعاناة؟.

وها نحن نجترّ خطابات الماضي أمام من لم يتخطَّ عقده الثّاني، لنصف لهم الحرب الأهليّة الّتي عاشها لبنان بالإنجاز، وندافع عنها، كلّ من منظوره الخاصّ. ومع احترامنا لكلّ شهداء الوطن، إلّا إنّ هؤلاء الشّباب لم يتّعظوا من تضحياتهم، ولا من دمائهم أو حياتهم الّتي استبيحت. فهل يستدعينا شبح الموت من جديد؟ ومن قال إنّ الإنسان المعافى لا يحبّ الحياة السّعيدة والهنيّة.

إنّ كلّ كلام يحمل في طيّاته خطابات الماضي المرير والقاسي، من دون أن يحفر في ذاكرة أبناء هذا الوطن (تنذكر وما تنعاد) يجب محاكمته. وكلّ من يسوّق لحياة قبليّة يجب محاكمته، وكلّ من يحمل سلاحًا خارج سلاح الدّولة يجب محاكمته. كفانا هتكًا للإنسان في لبنان! كفانا شرّ الأشرار! وآن الأوان لدولة القضاء، لدولة السّلام.

في العالم أكثر من عشرة آلاف مذهب دينيّ، وأكثر من ألفي دين، يعيشون بسلام ووئام. كفانا حروبًا باسم الدّين، واستعمال الطّوائف للشرّ المبين. لقد باتت الطّوائف في لبنان أقرب إلى الأيديولوجيّات منها إلى الدّين. فالأيديولوجيّات تقدّم صورة عن الواقع الرّاهن، كما عن الماضي والمستقبل، مشوّهة مضلّلة لا تعكس الحقيقة، وإنّما تعكس ما يناسبها ويناسب مشروعها الآنيّ، بيد أنّ الدّين هو إيمان ورجاء ومحبّة، ناهيك عن كونه آفاقًا وإيمانًا بالإنسان.

الإنسان هو وحده من يعطي معنى للحياة. وطالما الرّوح المحيي فينا، فلننبذ الخطأ والخطيئة، فالحياة صيرورة وحركة وتجدّد... والإنسان اللّبناني حبّ وحياة وإبداع، فلا تقتلوا البقيّة الباقية من طموح فينا للقيام من جديد، فنشهد على ولادة وطن الحلم. فنحن لا نريد العودة إلى الوراء. أما قال السيّد المسيح "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَجْعَلُ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاق عَتِيقَةٍ، لِئَلاَّ تَشُقَّ الْخَمْرُ الْجَدِيدَةُ الزِّقَاقَ، فَالْخَمْرُ تَنْصَبُّ وَالزِّقَاقُ تَتْلَفُ. بَلْ يَجْعَلُونَ خَمْرًا جَدِيدَةً فِي زِقَاق جَدِيدَةٍ"؟.