"أولئك الّذين يَعتَقدونَ أنَّ السُّلطةَ مُتعةٌ، يَخلُطونَ بينَ "القُوَّةِ" و"إساءَةِ استِخدامِ السُّلطَة".

هذا قَولٌ شَهيرٌ للكاتِبِ والأديبِ الفَرنسيّ "أندريه مالرو André Malraux"، والّذي، تولّى عِدَّةَ حقائِبَ وِزارِيَّةٍ في مَراحِلَ مُختَلِفَةٍ، إبَّانَ حُكمِ الجِنرال الكبيرِ "شارل ديغول Charles de Gaulle"، مِنها وِزارَةُ الشُّؤونِ الثَّقافِيَّةِ والإعلام. وهُوَ أيضًا مُغامِرٌ نَشيطٌ يُحبُّ الاكتِشافَ، وكان يَصِفُ العَالَمَ مِن حَولِهِ بِكلِمَةِ "Farfelu"، التي كان يُكثِرُ مِن تَردَادِها، بمعنى غير عقلاني إلى حدِّ الجُنون.

رَبَطَته بالجنرالِ ديغول صداقَةٌ مَتينة، وهو لا يَقِلُّ عنهُ ثَقافة وأدبًا ومَعرِفَة، لا بل إنَّ مُذَكَّراتِ ديغول، تُعَدُّ من أروعِ ما جَمَعَ بينَ السِّياسَةِ والأدَب.

ولدى "مالرو" أقوالًا رائعة، وهنا لا بُدَّ مِنَ الإشارَةِ إلى أنَّ كُلَّ قَولٍ بَنَّاءٍ يَرتَبِطُ بِصاحِبِه، فَسُلوكُهُ يَكشِفُ صِدقهُ، والتِزامَهُ بِما يَقول، لِذا لا تَكتَمِلُ المَعرِفَةُ إلّا بالتَّعرُّفِ على صاحِبِ القَول.

هذا الرجل الفرنسيّ، ذو التَّاريخِ الحافِلِ بِالمُقَاوَمَةِ والعَمَلِ في سَبيلِ تَحسينِ الوَضعِ الاجتِماعيّ ومساندة الفقراء، جرى بينَه وبَينَ الجِنرال ديغول لقاءٌ رائع، تَحالَفا بِنَتيجَتِه لِخدمَةِ فَرنسا الحُرَّة.

في ذلِكَ اللّقاءِ ألقى "مالرو" أمام ديغول، كلٍمَةً أُعتُبِرت بِمثابَةِ اعترافٍ إيمانيّ، ما طَمأنَ قلبَ الجنرال، وجَعَلَهُ يَعشَقُ "مالرو" على الفور، بعدَ أن كانَت لديهِ شُكوكٌ وتساؤلاتٍ بسبب نشاطاتِ "مالرو" السَّابِقة والّتي صُنِّفَت شُيوعِيَّة.

حصل ذلكَ اللّقاءُ الشَّهيرُ، يومَ الأربعاء في ١٨ تمّوز عام ١٩٤٥، في وِزارَةِ الحَربِ، في شارِعِ القِدّيسِ دومينيكان في باريس. ومِن دُونِ أن يَتبادَلا القُبَلَ وأحادِيثَ مُطَوَّلَةً كلاسِيكيَّة، دخَلا كلاهُما في صُلبِ المَوضُوعِ.

شَرعَ "مالرو" يَسرُدُ تَاريخَهُ، وخَتَمَ بكَلِماتِ ألهَبَتْ قَلبَ شارل ديغول: "... وفي النِّهايَةِ كانَتِ الحَربُ، الحربَ الحقيقيَّة. وكانَتِ الهَزيمَةُ (الاحتلال الألماني)، ومِثلَ كثيرينَ تَزوَّجت فرنسا...".

وقد كَتَبَ "مالرو"، عنِ الجنرال ديغول، كِتابًا بِعُنوان «L’homme du 18 Juin»، أي رجل الثّامن عشر مِن حزيران، عام ١٩٤٠، وهو اليومُ الّذي أَعلَنَ فيه ديغول مِن لندن، دَعوةَ تَحريرِ فَرنسا مِن الاحتِلالِ الألمَانيّ، ورفضَهُ لَه.

كما تلاحظ، عزيزي القارئ، أنَّني أُضَمِّنُ مقالاتي الكثيرَ مِنَ المواضيعِ المتنوِّعةِ مِنها الفلسفيَّة، أو الأدَبِيَّة أو الاجتِمَاعِيّة أو التَّاريخِيّة، وعلمُ النَّفسِ، وغيرُها مِن العُلوم، وذلِكَ لِسبَبَين:

الأوّل، إنَّ اللاهُوتَ المَسيحيَّ غيرُ مُنفَصِلٍ عن حَياتِنا الأرضِيَّةِ، وهو لاهُوتٌ مُتَجَسِّدٌ، لِكَونِ اللهِ تَجسَّدَ وصَارَ إنسانًا، وبَقِيَ إلهًا بِالطَّبع. وبِتَجَسُّدِهِ دَخَلَ عُمقَ حَياتِنا، وأَعطانا المِثالَ الصَّالِحَ لِنَقتَدِيَ بِه. وهُوَ يَطلُبُ مِنّا أن نَكونَ على هذا المِثالِ في كُلِّ تَفاصِيلِ حياتِنا، وفي كُلِّ عَملٍ نَقومُ بِهِ، أو مسؤولِيَّةٍ نَتبوَّأها، كَبيرَةً كانت أم صَغِيرة.

والسَّببُ الثَّاني، لأنَّ كُلَّ عَملٍ يَكتَمِلُ جَمالُهُ وصَلاحُه بِالمَسيحِ وإنجيلِه. وهذا ما فعله القدّيسِ الفَيلسوفِ يوستينوس الشَّهيدِ (١٠٠-١٦٥م)، الّذي دَعا الإمبراطورَ الرُّومانِيَّ الرِّواقيّ والمثقّف جدًا Marcus Aurelius، لأن يُكمِلَ مَعرِفَتَهُ بِالمَسيحِ، لأنَّ الرَّبَّ هُوَ كَمالُ المَعرِفَةِ والحِكمَةِ والجَمال.

وبِالعَودَةِ إلى مَوضُوعِ السُّلطَةِ والتَّسلُّطِ، أَذكُرُ حادِثَةً جَرت معي، عِندما كُنتُ أتدَرَّبُ على الحَرَكاتِ اللّيتُورجِيَّةِ قبلَ رِسامَتي شمَّاسًا بِيَومَين. وكان يُدَرِّبُني كاهنٌ مُتمَرِّسٌ على الخِدمَةِ في أَحَدِ الأديارِ، الّذي ما زِلتُ مُرتَبطًا به، وصادَفَ في ذَلِكَ اليومِ أن مرَّ كاهِنٌ لِزيارَةِ الدَّير، وهُوَ يُعَدُّ مِنَ المُرشِدين، وقد شاهَدَني في الكَنِيسَةِ أتمَرَّنُ على التَّبخير.

فقالَ للكاهِنِ المُشرِفِ على تَدريبي: أَعطِهِ كِتابًا لِيَضَعَهُ تَحتَ إبطِهِ الأيمَنِ عِندما يُبَخِّرُ، هكذا تَبقَى يَدُهُ مَشدُودَةً إلى جَسَدِهِ كي لا يَقعَ الكِتابُ، وَهَكذا يعتادُ الأمر.

وصَادَف أن أُعطِيتُ كِتابَ خِدمَةِ الكَهَنةِ الّذي نَستَعمِلُهُ في الصَّلواتِ والقُدَّاسِ الإلَهيّ. عِندمَا نَظرتُ إلى الكِتابِ قُلتُ في نَفسي: إن كانَ الأمرُ مُقتَصِرًا على الكِتاب، "ماشي الحال"، الأهمُّ ألّا نَعتادَ وَضعَ الخِدمَةِ والصَّلواتِ "تحتَ إبطِنا"، عِندَهَا سنعتادُ وَضعَ الإنجيلِ كُلِّهِ "تَحتَ إبطِنا"، والطَّامَّةُ الكُبْرَى إن وَضَعنا اللهَ نفسَهُ "تحتَ إبطِنا".

ليسَ هذا الكلامُ بعيدًا عنّا، إذ نَجِدُه يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ عَصرٍ وزَمان، وفِي كُلِّ مَسؤولِيَّةٍ، أكنسِيَّةً كانت أم مَدنِيَّة. فهُناكَ مَن يَضَعُ الكِتابَ المُقَدَّسَ وكلامَ اللهِ تَحتَ إبطِهِ، وهُناكَ مَن يَضعُ القَوانِينَ والشَّرائِعَ والأنظِمَةَ والدَّساتِيرَ تحتَ إبطِهِ. وهناكَ مَن يَضعُ المَحبَّةَ والإنسَانِيَّةَ تَحتَ إبطِهِ، وهناكَ مَن يَضَعُ المَنطِقَ والحَقيقَةَ والْعِلْمَ والمَعرِفَةَ والثَقافَةَ والرُقْيّ تَحتَ إبطِهِ أيضًا.

كُلُّ ذَلِكَ بِسببِ الأنا القَاتِلَةِ والمُدَمِّرَةِ والجَشِعَة الّتي فينا. فهي تُدَمِّرُ كُلَّ شيءٍ في طريقِها، وفي النِّهايَةِ تَقضي عَلَينا.

في هَذا الإطارِ يُؤكِّدُ عِلمُ الاجتِماع، وقَبلَهُ الإنجيلُ، على أنَّ المآسيَ البَشرِيَّةَ هي مِن صُنعِ الإنسان، إن على المُستَوى العَالَميّ الواسِعِ أو على المُستوى الفَرديّ الضَيِّق.

وعِندما نَتكَلَّمُ على الإنسانِ، لا بُدَّ لنا مِنَ الرُّجوعِ إلى نَشأتِه، وتَربيَتِهِ وطُفولَتِهِ والعَوامِلِ الّتي أثَّرت فيه وكَوَّنَت طَبْعَه وخُلُقَه، وكلّ ما في داخله مِن عِقَدٍ وأمراضٍ نفسيّةٍ وعِلل. فعِندَ الكَلامِ معَ إنسانٍ بِعُمرِ الأربَعينَ سنةً مثلًا، علينا أن نُدرِكَ أنَّنا نَتكلَّمُ مَعَ ما خَزَّنتهُ تِلكَ الأربَعُونَ فيه، وهُوَ بِالتَّالِي يَتفاعَلُ مِن خِلالِها دَاخِليًّا وخارِجِيًّا. مِن هنا يَقولُ القِدّيسُ إسحَقُ السُّريانيّ: "إنِ اصطَلَحتَ مَعَ ذاتِكَ، تَصطَلِحُ مَعكَ السَّماءُ والأرض".

وهنا يأتي الأهم، تُرى كيفَ يَصطَلِحُ الإنسان ويستقيم؟.

قبلَ الاستِشهادِ بِأجوِبَةِ الآباءِ القِدّيسين، سأعُودُ قَليلًا إلى صَداقَةِ André Malraux مع Charles de Gaulle، إذ يَكتُبُ ديغول في "مُذكَّراتِ الأمل "Mémoires d’espoir، عن عَلاقَتِهِ بـ Malraux: "وُجودُ هذا الصَّديقِ اللامعِ عَن يَمينِي، وتمييزُهُ المُبهِرُ والحكيم يُساعِدُني على تَبدِيدِ الشُّكُوك".

فالعَلاقَةُ الّتي جَمَعَتِ الحَاكِمَ بِوزِيرِهِ، كانَت مَبنِيَّةً على الصِّدقِ والشَّفافِيةِ وعَدَمِ المُحابَاةِ، وعلى النُّصحِ البنَّاءِ، لا مُساوَمَةَ فيها على الانحِرافِ والخَطأ والمصالح الشخصيّة الفَانية والرَخيصة. ويُضرَبُ بهما المَثَلُ، حتَّى قِيلَ: "لم يَعُد هُناكَ ديغول، ولم يَعد هُناكَ مالرو".

كم جَميلٌ أن نَستَعِيرَ كَلِماتِ "مالرو" ونَقول: "لقد تزوَّجتُ الرَّبَّ".

خُلاصَةً، يَقولُ الآباءُ القِدّيسُونَ، إنَّ الاصطِلاحَ الذَّاتيّ يكونُ بِالمُراجَعَةِ الذّاتِيَّةِ على ضَوءِ الإنجيلِ، وهي ما نُسَمِّيهِ التوّبة. وأيضًا بالإصغاءِ إلى صَوتِ الضَّميرِ المَوجُودِ في كُلِّ واحِدٍ مِنّا، والَّذي هُوَ صَوتُ الله. وهذا ما يَقولُهُ رَسولنا: "الْيَوْمَ، إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ" (عبرانيين ١٥:٣). ويُضافُ إلى ذلك قِراءَةُ ما يترُكَهُ لنا القِدّيسونَ، والاسترشاد عِندَ أبٍ رُوحيٍّ أَفرَغَ ذَاتَهُ لِيَمتلِئَ مِنَ المَسيحِ مَاقِتًا كُلَّ مَجدٍ أرضِيّ.

وهل هناكَ تَعبيرٌ أجمَلَ مِمَّا كَتبَهُ الرَّسُولُ بُولسُ عَنِ المَسؤولِ والحَاكِمِ، مُحَدِّدًا بأنَّهُ "خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ" (رومية ٤:١٣)؟.

وعندما يَقولُ "خادِمٌ للهِ"، يَعني لِمَجدِ اللهِ وليسَ لِمَجدِنَا نَحن. وإن أَرَدنا حقًّا مجدًا لنا، فليسَ أَفضلَ مِنَ السَّعي إلى مَجدِ اللهِ القُدُّوسِ، قَولًا وفِعلًا. عندها فقط، إذا تَكلّمنا وعلّمنا ومارسنا مسؤوليّاتنا بمخافة الله يكون سلطاننا مِن الله: "لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ"(مت ٢٩:٧).

إلى الرَّبِّ نَطلُب.