للإجابة على هذا السؤال سيُسارع الكثيرون للحديث عن إستقلاليّة لبنان، وعن حياده بعيدًا عن المحاور، وعن الإنتماء إلى لبنان أوّلاً وأخيرًا، وعن الكثير من الشعارات الطنّانة والرنّانة التي تؤكّد سيادة القرار وإستقلاليّة الرأي... لكنّ في مُقابل هذا الحياد النظري وغير المُطبّق ميدانيًا، يُوجد واقع عملاني يجب الإعتراف به يتمثّل في خلاف عميق بين اللبنانيّين-منذ الإستقلال حتى اليوم، بشأن هويّة لبنان، وهو خلاف مُستحكم ومفتوح إلى أنّ نُقرّر أيّ لبنان نريد! وما حدث خلال الأيّام القليلة الماضية، يتجاوز مسألة رأي وزير قبل توزيره، أو مسألة إستقالة هذا الوزير، أو حتى إستقالة الحكومة التي ينتمي إليها برمّتها. فقد بلغ الإنقسام بشأن سياسة لبنان وموقعه ودوره مرحلة مُتقدّمة وعميقة، بحيث أنّ التذاكي والإختباء خلف السياسة الرماديّة لم يُعد يُجدي نفعًا، وصار لزامًا الإختيار بين الأبيض والأسود. فإمّا لبنان في قلب "المحور الإيراني" وإمّا لبنان في قلب "المحور العربي الخليجي"!.

نعم، الخلاف على هويّة لبنان ليس بجديد، وهو يعود إلى الماضي البعيد، وليس بسرّ أنّ "اليمين اللبناني المسيحي" كان يحرص على تمييز لبنان عن محيطه، من خلال التذكير بجذورٍ "فينيقيّة"، ومن خلال إطلاق شعارات مثل " لبنان ذو وجه عربي"، بينما كان الشريك المُسلم يُشدّد على أنّ لبنان عربيّ الإنتماء والهويّة. لكن في العُقود الماضية وبعد طيّ هذه الصفحة الخلافيّة في "إتفاق الطائف"، فُتحت صفحة خلافيّة جديدة ليس على مُستوى النُصوص والدُستور هذه المرّة، بل على مُستوى المُمارسة على أرض الواقع، والخلاف لم يعدبين مجموعات طائفيّة ومذهبيّة مُتمايزة، إنّما صار سياسيًّا وإستراتيجيًّا بإمتياز.

فقد قام "حزب الله" بما يتمتّع به من نُفوذ داخلي، ومن قُوّة مُسلّحة، ومن دعم إيراني مَفتوحبالمال والسلاح، بأخذ لبنان عمليًا إلى محور إقليمي بقيادة إيران، يضمّ كلاً من سوريا والعراق واليمن وقطاع غزّة، ولبنان وإيران بطبيعة الحال. وبات "الحزب" حاضرًا ميدانيًا ولوجستيًا في ساحات القتال الإقليميّة، وعبر الدعم السياسي والإعلامي المتين، ضمن صراع كبير بين "المحور الإيراني" من جهة، و"المحور العربي الخليجي" من جهة ثانية، علمًا أنّ كلاً من المحورين المذكورين له إمتداداته الدوليّة التي تضع دولاً كبرى عدّة، وفي مُقدّمها روسيا والولايات المُتحدة الأميركيّة، وجهًا لوجه. ولم ينجح خُصوم "حزب الله" على الساحة الداخليّة من وقف هذا المنحى، لا سيّما في المرحلة التي تلت تشرذم وتشتّت قوى "14 آذار" السابقة، والتي تميّزت بمُهادنة وتنازل "تيّار المُستقبل" له، وكذلك بمُساهمة حزب "القوّات اللبنانيّة" في إيصال حليف "الحزب"، أيّ "التيّار الوطني الحُرّ"، إلى منصب رئاسة الجمهوريّة، وما إستتبع هذه الخُطوة من سيطرة تحالف "التيّار-الحزب" على مفاصل الدولة اللبنانيّة.

وبالتالي، المعركة السياسيّة والدبلوماسيّة التي فتحتها الدول الخليجيّة بقيادة السُعوديّة على لبنان اليوم، ليست عبارة عن ردّ فعل مُبالغ فيه على رأي حُرّ لا يُلزم أحدًا سوى مُطلقه-كما يُحاول البعض تصويره، إنّما هي عبارة عن حلقة صُغرى في مُواجهة كبرى بين المحور الإيراني والمحور السُعودي. يُذكر أنّ المُحادثات القائمة منذ مدّة، وعبر أكثر من قناة، بين إيران والسُعوديّة، فشلت حتى اليوم في التوصّل إلى تسوية. وبالتالي ما زالت الخلافات بين الطرفين مُستحكمة، وما زالت الحرب في اليمن قائمة، علمًا أنّ هذه الحرب تطال في شظاياها عُمق الأراضي السُعوديّة بالصواريخ وبالطائرات المُسيّرة. وتُحاول كل من إيران والسُعودية تقوية موقفها في هذا الصراع الإقليمي-الدَولي، عبر إستمالة أكبر عدد مُمكن من الدُول والقوى إلى جانبها. وليس بسرّ أنّ لبنان، إنزلق بحُكم الأمر الواقع الذي يفرضه "حزب الله" في المُعادلة الداخليّة، وعجز خُصومه عن مُواجهته-إمّا خوفًا أو تملّقًا، إلى "المحور الإيراني" بالمُمارسة. وهذا الأمر مُترجم في الأكثريّة النيابيّة، وفي الأغلبيّة العدديّة في الحُكومة، وفي السُلطة السياسيّة ككلّ، وخُصوصًا في مُمارسات "حزب الله" وتدخّلاته الإقليميّة التي لا تستأذن أحدًا. ولم تعد بعض المواقفالرماديّة التي تصدر عن بعض المسؤولين اللبنانيّين قادرة على إخفاء هذا الواقع، ولم تعد الحلول الترقيعيّة التي يبتدعها بعض المسؤولين اللبنانيّين قادرة على إقناع الدُول العربيّة والخليجيّة بحياديّة لبنان.

وإنطلاقًا ممّا سبق، الأزمة الحاليّة غير مُرتبطة بتصريح وزير شكّل النقطة التي أفاضت الكوب الذي كان إمتلأ أصلاً منذ فترة طويلة، تعود تحديدًا إلى ما قبل مرحلة إحتجاز رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في السُعوديّة، بسبب تلكؤه عن الوُقوف بوجه "الحزب". وبالتالي، مُعالجة الأزمة الحاليّة لن يكون عبر الحلول الترقيعيّة، حيث لا عودة للبنان إلى الحُضن العربي والخليجي، إلا عبر خيار من إثنين: إمّا تبدّل كبير في توازنات القوى الداخليّة عبر الإنتخابات وإتخاذ الأغلبيّة الجديدة مواقف وإجراءات حازمة تُبعد لبنان عن المحور الإيراني وتعيده من جديد إلى مُحيطه العربي، وإمّا عبر حُصول تسوية إيرانيّة-سُعوديّة تؤدّي إلى الإتفاق على مناطق النُفوذ الإقليمي بين الطرفين. وبغير ذلك، لبنان سيبقى معزولاً وسينجرف أكثر فأكثر شرقًا، مع كل ما يعنيه هذا الأمر من تحوّل سياسي إستراتيجي، ومن إرتدادات إقتصاديّة وماليّة وحياتيّة على شعبه.