لقد بات واضحًا للجميع أنّ ما يحصل في لبنان حاليًا، ليس نتاج تصريحات إعلاميّة، بل هو نتيجة إرتدادات صراع إقليمي كبير جدًا، له إمتداداته الخارجيّة والدَوليّة، في ظلّ تشابك ملفّات المنطقة المَعروضة على طاولات التفاوض. وما يهمّ اللبنانيّين يتمثّل في ما ستؤول عليه الأوضاع في ضوء هذا التأزم، فهل ستستقيل الحكومة في نهاية المطاف، وهل ستحصل الإنتخابات، وهل سيُعزل لبنان كليًا؟.

من الواضح أنّ المملكة العربيّة السُعوديّة، ومن خلفها أغلبيّة الدول الخليجيّة الداعمة لها، لم تعد راضية على ما آلت إليه الأمور في لبنان خلال السنوات القليلة الماضية، حيث إختفت المُواجهة من الندّ للندّ مع "حزب الله" من قبل ما كان سابقًا يُعرف بإسم قوى "14 آذار"، وصارت هذه القوى تُقدّم-مُجتمعة أو فرادة، التنازل تلو التنازل لصالح "الحزب"، الأمر الذي سمح لهذا الأخير بتحديد هويّة رئيس الجمهوريّة، وهويّة رؤساء الحُكومات والعدد الأكبر من الوزراء فيها، إضافة إلى السيطرة على الأغلبيّة العدديّة في مجلس النوّاب خلال المرحلة الأخيرة. وبعد أن فشلت الإحتجاجات التي إنطلقت إعتبارًا من 17 تشرين الأوّل 2019، في تغيير هذا الواقع، حاول رئيس "تيّار المُستقبل" النائب سعد الحريري تشكيل حُكومة من المُستقلّين، على أمل أن يكون إبعاد مُمثّلي "الحزب" عنها، كفيلاً بإعادة تحسين علاقات لبنان مع الخليج، وبإعادة علاقاته الشخصيّة مع المملكة أيضًا! لكنّ هذا الأمر لم يحصل، بسبب إعتراض تحالف "التيّار الوطني الحُرّ–حزب الله" على هذا الأمر لأشهر طويلة. وفي نهاية المطاف، وافق خلفه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على تشكيل حكومة مُستقلّة ظاهريًا، لكنّها سياسيّة في المضمون، الأمر الذي أسفر عن إتخاذ القرار الخليجي بالتصعيد، خاصة وأنّ المُحادثات بين طهران والرياض لم تُحقّق أيّ تقدّم، وأنّ الحرب في اليمن ما زالت مفتوحة على مصراعيها، مع كل الإرتدادات الأمنيّة السلبيّة على السُعوديّة.

والمُفارقة اللافتة حاليًا أنّ الرغبة بتطيير الحُكومة المَشلولة والغارقة في خلافاتها أصلاً، تُعارضها الولايات المُتحدة الأميركيّة وفرنسا من جهة، وروسيا وإيران و"حزب الله" وآخرين من جهة أخرى، بحيث باتت جهات مثل واشنطن وباريس و"حزب الله"... في خندق واحد-بالمعنى المَجازي للكلمة! فإذا كان "التيّار الوطني الحُرّ" لا يريد إنتهاء العهد الرئاسي باكرًا في حال إستقالة الحُكومة، فإنّ "حزب الله" يعتبر أنّ هذه الحكومة "تحمي ظهره"، ولا تقف لا أمام تنامي نفوذه على الساحة الداخليّة، ولا بوجه توسّع تدخلاته الخارجيّة. وتردّدت معلومات صحافيّة غير أكيدة في الساعات الماضية أنّ "الحزب" يدرس جديًا إمكان تعليق مُقاطعته لجلسات مجلس الوزراء، حتى لو لم يتمّ إزاحة القاضي طارق البيطار عن ملفّ إنفجار المرفأ، وذلك بهدف السماح بعودة الحُكومة إلى الإجتماع، بإعتبار أنّ التطوّرات الأخيرة تستدعي مثل هكذا إجراء. بالنسبة إلى العالم الغربي، فهو يريد بقاء الحُكومة للحفاظ على الحدّ الأدنى من الإستقرار في الداخل اللبناني، وخُصوصًا لأنّ واشنطن وباريس تُعوّلان على إجراء الإنتخابات النيابيّة في المُستقبل القريب، ومن ثم الإنتخابات الرئاسيّة، وذلك بهدف إعادة تركيب السُلطة من جديد في لبنان، وبدء مسار الإصلاحات والنهوض بمُساعدة من المُجتمع الدَولي وصندوق النقد.

بالإنتقال إلى رئيس الحُكومة نجيب ميقاتي فهو الأكثر حرجًا، لأنّه كان يتوقّع تجاوز الأزمة الدبلوماسيّة الحاليّة بإستقالة وزير الإعلام جورج قرداحي، لكنّ هذا الأمر لم يحصل. وبالتالي، صارت الأنظار مُوجّهة إلى ميقاتي شخصيًا، لجهة ما إذا كان سيستمرّ في منصبه، مع ما يعنيه ذلك من تآكل لشعبيّته ضُمن بيئته الحاضنة، وخُصوصًا من حرق لأوراقه المُستقبليّة ضُمن علاقاته الخليجيّة، أو ما إذا كان سيستقيل لتُشرّع عندها الأبواب على واقع غير مُستقرّ مفتوح على كل الإحتمالات. والخشية الأكبر هي على الإستحقاقات الإنتخابيّة المُقبلة، حيث يُوجد أكثر من طرف داخلي يُحبّذ تمديد الواقع القائم، من دون المُغامرة بإجراء أيّ إنتخابات يُمكن أن تقلب التوازنات الداخليّة. في المُقابل، يُوجد رأي آخر يتحدّث عن أنّ إستقرار لبنان ليس مُرتبطًا ببقاء الحُكومة من عدمه، لأنّ من شأن إستمرار تدحرج كرة ثلج الأزمة الدبلوماسيّة الحاليّة مع الخليج، وُصولاً إلى مرحلة العزل الكاملة، أن يُهدّد الأمن الإجتماعي في لبنان الغارق أصلاً بأزمات معيشيّة وحياتيّة حادة، وبالتالي أن يُهدّد إستقرار لبنان ككلّ.

والمُشكلة الكُبرى أنّ حلّ الأزمة الحاليّة لم يعد بيد شخصيّة مُحدّدة أو حزب مُعيّن، لأنّ حلّ هذا النوع من الأزمات يستوجب تسويات كبيرة، يتداخل فيها الإقليمي مع الدَولي. ولا شيء يمنع أن تربط السُعوديّة المسألة بإيجاد حلّ لحرب اليمن، حيث تتواصل هجمات "الحوثيّين" المَدعومين من إيران ومن أذرعها المُسلّحة في المنطقة، على القوات الحليفة لها في اليمن، وعلى الداخل السُعودي أيضًا من خلال الصواريخ الباليستيّة والطائرات المُسيّرة. ومن غير المُستبعد أن تتوقّع الرياض مواقف داعمة أكثر لها، من قبل العواصم الغربيّة، وفي طليعتها واشنطن، في صراعها الإقليمي المفتوح مع طهران، في إنتظار أن يظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود على مُستوى مُحادثات "الإتفاق النووي" بين إيران والعالم الغربي.

في الختام، إنّ لبنان الذي هو الحلقة الأضعف ضُمن ما يحدث على الساحة الإقليميّة، يُواجه حاليًا خطرًا كبيرًا بأن يدفع ثمن التسويات التي تتمّ على نارٍ حامية، في ظلّ تشرذم داخلي غير مَسبوق، وغياب أيّ قيادة مركزيّة ومُوحّدة وجديّة ومُتمكّنة، للسفينة التي تتقاذفها الرياح العاتية!.