قَالَ الْمَلاَكُ رَافَائِيلُ لطوبيا: "اسْتَمِعْ فَأُخْبِرَكَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَقْوَى عَلَيْهِمْ؟ إِنَّ الَّذِينَ يَتَزَوَّجُونَ، فَيَنْفُونَ اللهَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَيَتَفَرَّغُونَ لِشَهْوَتِهِمْ كَالْفَرَسِ وَالْبَغْلِ اللَّذَيْنِ لاَ فَهْمَ لَهُمَا؛ أُولئِكَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ"(سفر طوبيا ١٦:٦-١٧).

الشهوةُ تَجعلُ مِنَ الإنسانِ عَبدًا لها. والشَّهوةُ ليست مَحصُورَةً بِالجِنسِ فَحسب، بل قد تَكونُ شَهوةَ مالٍ أو مُمتَلكاتٍ أو سُلطَةٍ أو أَيِّ شيءٍ آخَر.

وعلى قَولِ كاتِبِ أُغنِيةِ "إنتَ الحُبّ[1]": "كُلُّهُ في حُبَّك يَهون"، يُستبَاحُ كُلُّ شيءٍ، الأخلاقُ والصِّدق والوفاءُ والشَّرفُ والتضحيةُ والكرامَةُ والنَّاسُ والأوطانُ والدَّساتيرُ، وتَطولُ اللائحة. هذا طبعًا إن كانَ الحُبُّ عندَ صاحِبِهِ الشَّهوةَ الضَّارة. وهذا لُبُّ المَوضُوع.

بدأتُ هذه المَقالَةَ بِكلامِ الْمَلاَكِ رَافَائِيل، وذلِكَ لأنَّنا نُقيمُ في الثَّامِنِ مِن تِشرينَ الثَّاني في كُلِّ عَامٍ، عيدًا جَامِعًا لِرُؤساءِ المَلائِكَةِ والمَلائِكَة.

الملاكُ، هُوَ المُرسَلُ مِنَ اللهِ لإبلاغِ الخَبرِ السَّار، وفي اللُّغَةِ العَربِيَّةِ تأتي مِن فِعل لأك[2]، أي أرسَلَ.

كُلُّ هذا يُشيرُ إلى اللِّقاء، وهنا الجَوهر. فأجمَلُ خَبرٍ سارٍّ هو لِقاءُ القُلوبِ النَّقيَّةِ والنُّفوسِ المُحِبَّةِ والمَليئةِ بِالإرادَةِ الطيّبَةِ. وتاجُ اللِّقاءاتِ لِقاءُ اللهِ بِالإنسانِ، وهذا هُوَ"التَّجسُّدُ" فَرادَةُ المَسيحِيّة. وهُو لِقاءٌ خَلاصيُّ، ويَجب أن يَكونَ مِثالَ كُلّ لِقاء. وكَم مِن مَرَّةٍ نَقولُ: أَرسَلَ اللهُ لي شَخصًا مَلاكًا سَاعَدَني.

هُناكَ قَصيدَةٌ شِعرِيَّةٌ، مِنَ القَرنِ الرَّابِعَ عَشَر، للكاتِبِ الإيطاليّ دانتي أليغييري [3]Dante Alighieri، بِعُنوان "الكوميديا الإلهيّة [4]Divina Commedia La"، يَصِفُ فيها خُروجَهُ مِن جَهَنَّمَ إلى السَّماءِ بِمُساعَدَةِ أشخَاصٍ كانوا لَهُ كالمَلائِكة.

اعتُبِرَت هذهِ القَصيدَةُ مِن أَهَمِّ الأعمالِ الأَدَبِيَّة، بِحَيثُ ألهَمَتِ الكَثيرَ مِن كِبارِ الأُدبَاءِ والفَنَّانِينَ أمثالِ Botticelli وAuguste Rodin، وتُرجِمَت رُسومَاتٍ وأَشعارًا ومَسرَحِيَّاتٍ وقِصَصًا وبِناءً هَندَسيًّا[5]، وحَلقاتٍ مُتَحَرِّكَةً، وأفلامًا سِينمائيّةً، وأَلحانًا مُوسِيقِيَّة، وحتَّى ألعابَ فيديو مُتَطَوِّرَةً مثل Dante's Inferno 2010.

قبلَ التَّعرُّفِ على الكُوميديا الإلهيَّةِ بِإيجَاز، لا بُدَّ مِنَ الإشارَةِ إلى أنَّ كَلِمَةَ كُوميديا بِأصلِها اليُونانِيّ komodía، تُشيرُ إلى قِصَّةٍ مليئةٍ بالصِّعابِ، ولكنَّ نِهايتَها سارَّة.

بِالعَودَةِ إلى القَصيدَةِ، هي تُقسَمُ إلى ثَلاثَةِ أقسَام: الجَحيم، المَطهَر، والفِردَوس.

يبدأُ دانتي في جَهنَّمَ وَسطَ غابَةٍ مُظلِمة، وهي صُورةٌ عنِ الخَطِيئَةِ والبُعدِ عَنِ الله، لِكَونِهِ أضاعَ طَريقَ اليَمِينِ الّتي هِيَ الفَضائِل، وذلك بسببِ الشَّهوةِ والأَهواءِ المُعيبَة.

ويَذكرُ أن جَهنَّمَ في وَسَط ِالأرض، حَيثُ سَقطَ الشّيطانُ الذي كانَ مَلاكَ نُورٍ، وأَحدَثَ فَجوةً مِحورُها أُورشليم، وفيها دَوائرُ بِشَكلٍ مَخرُوطي conique، مِنَ الأوسَعِ إلى الأضيق، عَددُها تِسعَة. وكُلَّما كَبُرَ حجمُ الخطيئة، صَغُرَت دائرةُ المحكومِ عليه وأصبَحَ أقرَبَ لإبلِيس.

وفي بَحثِهِ عن مَخرَجٍ، يُشاهِدُ تَلّةً تُنيرُها أشعّةُ الشَّمس. فيحاولُ التَّقدُّمَ لِبُلوغِها، لكنَّهُ يَصطَدمُ بثلاثِةِ حَيواناتٍ شَرِسةٍ جِدًا: الوَشَقُ (Lynx): وهو رَمزُ الشَّهوة، الأسَدُ: رَمزُ الكِبرياء، والذِئبُ رَمزُ الجَشَع. ويَعتَبِرُ دانتي بأنَّ هذه الرَّذائلَ الثلاثَ أساسُ كُلِّ الشُّرور.

خَوفًا مِن أن يَلتَهِمَهُ الذِّئبُ، يَسقُطُ دانتي إلى أسفلِ المُنحَدَر. وهو يُحاوِلُ النُّهوضَ، يُشاهِدُ روحَ الشّاعرِ فيرجيل [6]Virgile، مُرسَلًا مِن قبلِ فَتاةٍ أَحبَّها ورَقَدَت في عُمرِ الصِّبا، تُدعى Béatrice، فيَرجُوهُ بَاكيًا مُسَاعدتَه. يُلَبّي فيرجيل الطَّلب، ويَكشِفُ لَهُ طَريقًا آخرَ لبلُوغِ أعلى القِمَّة، وتَجنُّبِ تِلكَ الحَيوانَات، لَكِنَّه أطولُ وأصعبَ، إذ يَمُرُّ بينَ ما هوَ "صحيح" وما هوَ "خطأ". ويَسيرَان مَعًا.

كان فيرجيل بِمثابَةِ مَلاكٍ لِدَانتي، ويُمثِّلُ في القَصيدَةِ الإدراكَ، والفتاةُ اللّاهُوت. وقَبلَ بُلوغِهما الفِردَوسَ تَحلُّ Béatrice مَحلَّ فيرجيل، وتُكمِلُ مَعَهُ المَسيرَ إذ، كَما يُشيرُ دانتي، الإدرَاكُ وحدَهُ لا يَكفي، بل هُوَ بِحاجَةٍ إلى اللّاهُوتِ المُعاشِ الّذي تُمَثِّلُهُ الفَتاة.

ما يَزيدُ القصيدَةَ جمالاً، وَصفُها الشِّعريّ، فيقولُ دَانتي مَثلًا، في جَهنَّمَ لا نورَ ولا تَعزيةً، وقد دُوِّنَ على بابِها الكَبيرِ: "أيُّها الّذينَ يَدخُلون، أترُكوا كُلَّ أمَل. "Laissez toute espérance, vous qui entrez".

ويَضعُ دانتي أمامَنا الكَسالى والفَاتِرينَ والمُهمِلينَ (والمُرادَفاتُ تَطُول)، الّذين التَقاهم في جَهَنَّم. إنَّهُم المُتَلَوّنُونَ الّذين يَعمَلون فقط لأنفُسِهم، حَيثُ لا مَبدَأ لَهم ولا أَساس، ويَقتَنِعونَ دائمًا بِالتَّكَيُّفِ، ولا يَتجرأونَ على اتِّخاذِ مَوقفٍ، إلّا إذا كانَ لِمَصلَحَتِهم الشَّخصِيَّةِ فَقَط.

ويَقُولُ: السَّماءُ تَرفُضُهم ولا تُظهِرُ لهم جَمالَها. وهُم نَكِرةٌ، ولا يُوجَدُ أيُّ ذِكرٍ لهم عَلى الأرض أو في السَّماء. حتّى العَدالَةُ والرَّحمَةُ تَرفضانِهم. وأدرَكَ دَانتي أنَّ هَؤلاءِ النَّاسِ هُم الجُبَنَاء، وإنَّهم قَافِلَةً كَبيرَةٌ يَقِفُونَ أمواتًا، إذ كَانُوا أصلًا أمواتًا وهم أَحياء "Qui jamais ne furent vivant".

وهذا يَضَعُ أمامَنا ما قَالَهُ الرَّب: "هكَذَا لأَنَّكَ فَاتِرٌ، وَلَسْتَ بَارِدًا وَلاَ حَارًّا، أَنَا مُزْمِعٌ أَنْ أَتَقَيَّأَكَ مِنْ فَمِي"(رؤيا ١٦:٣).

فممنوعٌ علَينا أن نَعيشَ على الهَامِش: "مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ"(لوقا ٢٣:١١).

وكان دانتي في قَصيدَتِهِ هَذِه يُترجِمُ الحَياةَ الاجتِماعِيَّةَ في عَصرِه، ومَسؤولِيَّةَ كُلِّ مُواطِنٍ للعَمَلِ في بِناءِ المُجتَمَع، ويَقولُ: مَن لا يُبادِرُ لا قِيمَةَ لَهُ ولا كَرامَة.

وصُورَةُ جَهَنَّم القُصوى تتمَثَّلُ ببَردِ جَهَنَّمَ القارِس وَسَطَ اللَّهيبِ الحارِقِ في كُلِّ مَرّةٍ يُحَرِّكَ فيها الشَّيطانُ جَناحَيهِ مُحدِثًا رِياحًا شَدِيدَةَ الْبُرُودَة.

وقد وَضَعَ دانتي "غيرَ المبالين" بسِواهُم في دَرَجَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ في جَهَنَّمَ، يَتقدَّمُهم المُدرِكونَ خطاياهُم والمُصِرُّون عليها. وفي الدَّائِرَةِ ما قبلَ الأخيرةِ، يَضَعُ دانتي المُخادعينَ والكاذبينَ والخُبَثاءَ الّذين يَستَغلِّونَ طيبَةَ قلوبِ الآخَرِينَ وحُسن نَواياهم.

أمّا في الدَّائِرَةِ الأخيرَةِ فيُوجَدُ الخَوَنَةُ بالتَّرتيبِ التّالي: خَوَنَةُ أهلِ البَيتِ الوَاحِدِ، خَوَنَةُ الوَطَن، خَوَنَة الأمانَةِ وخَوَنَةُ الله.

وهنا تَنتَصِبُ أمامَنا صُورةُ بيلاطُسَ البُنطيّ، الّذي غَسَلَ يَديه مُدَّعِيًا أنَّ لا مَسؤوليةَ له في صَلبِ المسيحِ مَعَ أنَّه كان الحاكِمَ، خَاشيًا خسارةَ كُرسِيِّهِ إن نَطَقَ بالحَق.

فَكَم مِن مَسؤولٍ يُشابِهُ بيلاطُسَ، ويَضَعُ الحقَّ جَانبًا لِمَصلَحَتِه الشَخصِيَّةِ الضَيّقَةِ والرَّخيصَة، ويَغسِلُ يَديه نَاسيًا أنَّ سُلطَتَهُ هي أمامَ الله أوّلًا، وكلَّ إنسانٍ سُيحاسَبُ بَحَسَبِ وَزَناتِه، والرَّبُّ لا يُحابي الوُجوه؟.

خِتامًا، عَلَّ هذه الصُّوَرَ الشِّعريَّةَ تَحثُّنا قليلًا، فلا نَكونَ شَياطِينَ لِسِوانا، ولا جَهَنَّمَ لإخوَتِنا، كما يقولُ الفيلسوف الفرنسي Jean-Paul Sartre ، والذي يَشرَحُ أنَّ قيمةَ الإنسانِ في إنسانِيَّتِهِ وإدراكِهِ لها مِن خلالِ الأحاسيسِ والمَشاعِرِ، وهذا ما يُميِّزُ وُجودَهُ عَنِ الأشياءِ الجامِدَةِ، فهو كائِنٌ "Pour Soi"، وليسَ جامدًا "En Soi"، وعدمُ الإنسانيّة يَجعَلُنا نَرى الآخرينَ أشياءَ وليسَ بَشرًا، كما يَقولُ الشاعر الكبير إيليّا أبو ماضي في قصيدته "كُن بَلسَماً": "أَيقِظ شُعورَكَ بِالمَحَبَّةِ إِن غَفا، لَولا الشُعورُ الناسُ كانوا كَالدُمى".

فساعِدْنا يا رَبُّ ألّا نَنسى أنَّ كُلَّ شَيءٍ مَكشُوفٌ أَمامَك، حَتَّى لَو ظَهَرنا كَملاكِ نورٍ[7]، كَما يَستَطِيعُ أن يَفعَلَ الشَّيطَان.

إلى الرَّب نَطلُب.

[1] الشاعر أحمد رامي كاتب أغنية "إنت الحب" التي لحّنها محمد عبد الوهاب وغنّتها أم كلثوم عام ١٩٦٥

[2] الخوري بولس الفغالي – كتاب المحيط الجامع في الكتاب المقدس والشرق القديم

[3] Dante Alighieri «Dante» est un poète, écrivain, penseur et homme politique florentin né entre la mi-mai et la mi-juin 1265 à Florence et mort le 14 septembre 1321 à Ravenne.

[4] Au début c’était «Commedia» et L'adjectif «divina» fut utilisé pour la première fois parBoccace dans son petit Traité à la louange de Dante (1373), et ne devint commune que lorsque Ludovico Dolce, dans son édition vénitienne de 1555, reprit le titre boccacien.

[5] إستلهم مِنها المُهَندسُ الإيطالي المعماري Mario Palantiلِبناءِ مبنى Palacio Barolo في بوينس أيرس (١٩١٩-١٩٢٣)، أعتُبِرَ وَقتَها أَعلى مَبنى في أميركا الجَنوبِيَّةِ إذ بَلَغَ ارتِفاعُه مئة متر.

[6] كاتب ملحمة لاتينيّة (٢٩- ١٩ قبل المسيح) تدعى Énéide

[7] "وَلاَ عَجَبَ. لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ!" (٢ كورنثوس ١٤:١١)