بدلاً من أن تكون الحُكومة الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي، والتي وُلدت بصُعوبة بعد أشهر طويلة من الفراغ، حُكومة العمل ليل نهار لمُحاولة وقف الإنهيار، تحوّلت إلى مشلولة ولا تعقد أيّ إجتماعات، وتُساهم بالتالي في زيادة سرعة هذا الإنهيار وحدّته. وليس بسرّ أنّ الضُغوط التي يُمارسها "حزب الله"، إنطلاقًا من خلافات بين أهل الحُكم بشأن قضيّتي التحقيق العدلي الخاص بإنفجار مرفأ بيروت، وتصريح وزير الإعلام جورج قرداحي الذي تناول فيه أزمة اليمن، تُعطّل الحُكومة حتى إشعار آخر، مع ما يُسبّبه هذا الواقع من إرتدادات سلبيّة على اللبنانيّين جميعًا، ومن خسارة معنويّة جسيمة للعهد!.

في قضيّة تحقيقات إنفجار الرابع من آب، لا يزال "حزب الله" عند موقفه، لجهة ضرورة كفّ يد المُحقّق العدلي القاضي طارق البيطار بشكل نهائي عن الملفّ، وليس جزئيًا ومرحليًا فقط كما يحصل حاليًا، وذلك بحجّة أنّ القاضي البيطار مُنحاز وإستنسابي، ويعمل وفق أجندات سياسيّة غير بعيدة عن التدخلات الأميركيّة والغربيّة لحرف التحقيق عن مساره، إلى ما هناك من تبريرات وأعذار تُعطى في الإعلام. ولم تنجح كلّ المُحاولات في إقناع "الحزب" بتليين موقفه في هذا الملفّ، خاصة وأنّ تحقيقات المُحقّق العدلي شبه متوقّفة عمليًا، بسبب الدعاوى القضائيّة وطلبات كف اليد المُتوالية التي تُرفع بوجهه.

وفي قضيّة تصريحات وزير الإعلام، لا يزال "حزب الله" عند موقفه أيضًا، لجهة رفض تقديم الوزير قرداحي إستقالته، ورفض إقالته على طاولة الحُكومة، وذلك بحجّة ضرورة عدم الرضوخ للضُغوط الخارجيّة، حتى لا يُصبح هذا الأمر نوعًا من الإذعان القابل لأن يتكرّر في المُستقبل في كلّ مرّة لا يُعجب تصريح مُعيّن أحدهم في الخارج، ولأنّ إستقالة وزير الإعلام لا تحلّ أصلاً المُشكلة القائمة حاليًا. ولم تنجح كل الإتصالات، وحتى الوساطات وآخرها الوساطة المصريّة، في إقناع "الحزب" بتليين موقفه في هذا الملفّ أيضًا، علمًا أنّ مطلب الإقالة هو شكلي ويهدف إلى إمتصاص النقمة الخليجيّة، ولا يُغيّر في توازنات الحكومة أو في سياسات "حزب الله" الداخليّة والخارجيّة.

وإنطلاقًا ممّا سبق، لا يزال رئيس الحُكومة نجيب ميقاتي يتريّث في الدَعوة إلى عقد جلسة للحُكومة، على الرغم من التدهور غير المسبوق الذي بلغته الأمور على مُختلف الصُعد، وذلك خشية أن تؤدّي الدَعوة إلى إنعقاد مجلس الوزراء، إلى تفجير الحكومة من داخلها. ويُحاول رئيس الحكومة فصل ملفّات التفاوض التي يقوم بها لبنان مع صندوق النقد الدَولي ومع المجتمع الغربي عن الأزمة الداخليّة القائمة، كسبًا للوقت، وهو يستبعد حتى تاريخه خيار الإستقالة، بسبب الفراغ الكبير الذي يُمكن أن ينجم عن هكذا خُطوة، على أبواب إنتخابات نيابيّة مُعرّضة هي الأخرى للإهتزاز بسبب الطعن الدُستوري المُرتقب تقديمه من قبل "التيّار الوطني الحُر"، إعتراضًا على جملة من المُخالفات الدُستوريّة التي حصلت في المجلس النيابي عند تمرير التعديلات على القانون الإنتخابي النافذ. ويعود جزء من وضع ميقاتي خيار الإستقالة جانبًا، إلى ضُغوط دَوليّة تُطالب لبنان بالحفاظ على السُلطة التنفيذيّة التي ستشرف على الإستحقاق الإنتخابي المُرتقب، ناهيك عن حبّ السُلطة الذي يُغري أغلبيّة الشخصيّات في الموقع.

والمُشكلة أنّ حال الشلل مُرشّحة لأن تطول، حتى لو جرى في المُستقبل تدوير الزوايا وفق الأسلوب اللبناني الرمادي المعهود، لأنّ عدم التوصّل إلى نتيجة ملموسة في تحقيقات إنفجار المرفأ سيؤثّر سلبًا على مساعي لبنان لجلب المُساعدات من العالم الغربي، ولأنّ عدم حلّ المُشكلة مع دول الخليج سيوجّه ضربة قاضية لأي أمل بالحُصول على مساعدات ماليّة عربيّة. وإذا كانت قضيّة تحقيقات القاضي طارق البيطار قابلة ربما لأنّ تُحلّ بشكل أو بآخر بجهود داخليّة، فإنّ قضيّة الأزمة مع دول الخليج مُرتبطة بصراع إقليمي، ولا يُمكن حلّها بإجراء لبناني من هنا أو بوساطة مسؤول عربي من هناك. وليس بسرّ أنّ العلاقات الإيرانيّة-السُعوديّة التي كانت قد بدأت تشهد بعض التحسّن في الأشهر الماضية، عادت إلى مرحلة التوتّر الشديد، بسبب عزم إيران على تحقيق الإنتصار الميداني الكامل في الحرب المَدعومة من قبلها في اليمن، وبسبب رفضها نتائج الإنتخابات التي جرت في العراق والتي جاءت لصالح قوى لا تدور في الفلك الإيراني، وكذلك بسبب إصرارها على مُواصلة توسيع نفوذها في دول مثل سوريا ولبنان. وكل ما سبق أثار حفيظة السُعوديّة التي تعمل من جهتها على تجّنب الخسارة الميدانية في اليمن، وعلى إستعادة جزء من نفوذها السابق في المنطقة العربيّة. وبالتالي، إنّ مطالب السُعوديّة التي من شأنها إعادة علاقاتها الطبيعيّة مع لبنان، تتجاوز مسألة إقالة وزير الإعلام، وتصل إلى حدّ وقف النهج المُعادي الذي ينتهجه "حزب الله" ضُدّها. وهذا المطلب، المَدعوم من أغلبيّة دول الخليج الأخرى، هو خارج قُدرة الحُكومة وكل الدولة اللبنانيّة على التنفيذ.

ويُمكن القول إنّ "حزب الله" الذي يُكبّل الحُكومة حاليًا، تحت شعارات برّاقة لها علاقة بالعدالة وبالسيادة وبعدم الرضُوخ للضُغوط الخارجيّة، أكانت أميركيّة أم سُعوديّة أم غيرها، ليس بوارد التراجع عن تشدّده، خاصة وأنّ المفاوضات الإيرانيّة بشأن ملفّها النووي ما زالت تدور على نار حامية ولم تصل إلى أيّ نتيجة بعد. والأكيد أنّ هذا التشدّد مَعطوفًا على الشلل الحُكومي المفتوح، زاد من حدّة الإنهيار ومن عزلة لبنان، وعهد الرئيس العماد ميشال عون هو الخاسر الأكبر ممّا يحصل، حيث لم يعد هناك أي مجال لتحقيق أي إنجاز في الأشهر القليلة المُقبلة، والمواطن اللبناني هو الخاسر أيضًا لأنّه يدفع أثمانًا باهظة لصراعات ولخلافات لا ناقة له فيها ولا جمل!.