من يرى الجسم القضائي في ​لبنان​ من الخارج، لا يشكّ للحظة انه جسم كامل المواصفات والاعضاء، ويعمل بديناميّة وتناغم كبيرين، ولكن عندما يدخل هذا الجسم الى "صورة الاشعة"، يظهر ما كان مخفياً من امور. الجميع في لبنان يناصر ​القضاء​، ويعتبره المرجع الاول والاخير له، ويهاجم من ينتقده او يعيب عليه بعض القرارات، ولكن الجميع ايضاً يعودون الى مسار انتقاده والتشكيك به حين تصبح الامور مغايرة لهم.

ومن مبدأ "كلّن يعني كلّن"، يتعرض القضاء في لبنان لشتّى انواع الهجمات من كل مسؤولي ورؤساء الاحزاب والتيارات السياسية،ولو بأوقات ومناسبات مختلفة ومتفاوتة، حتى ان اعضاء من داخل الجسم القضائي بدأوا ايضاً بمهاجمة خلايا الجسم الذي ينتمون اليه، فأصبح هناك محاور عدة له الذي من المفترض ان يكون موحّداً وملاذاً اخيراً للجميع، كي يبقى البلد متماسكاً وقادرا ًعلى السير بثبات ووعي الى الامام.

لطالما تمسك اللبنانيون بحكم القضاء، ولو ان احداً لا يطبّقه، ولكنهم كانوا يحترمونه ويرضون بـ"هيبته" التي كانت تفرض نفسها في كثير من الاحيان، حتى في خضمّ الحروب العبثيّة التي شهدها لبنان منتصف السبعينات وحتى اواخر تسعينات القرن الماضي، بدليل ان كل ما كان يحصل من شؤون يوميّة للناس،كان يحصل بغطاء قانوني، وكان الجميع يحرص على الحصول على هذا الغطاء بطريقة او بأخرى، فيرتاح باله ويطمئن الى انّ ما يقوم به بات على المدى البعيد "مضموناً" بضمانة قضائية... اليوم، تحوّل القضاء الى حلقة ضعيفة ويركب موجات عدّة تشيد به حيناً، وتنهال عليه باللوم والتشكيك احياناً. ولكن الخطر الحقيقي برز من مدّة غير بعيدة، وتمثّل بجولات من المواجهة بين أبناء الجسم الواحد، فوقف قضاة في وجه بعضهم، كلّ منهم يتسلّح بالقانون والدستور ويعلن بالفم الملآن انه هو صاحب الحق، ولو أنّ من يواجهه هو من العائلة نفسها ويفترض ان يتشارك القيم والمعلومات والمبادئ نفسها.

ليست المرة الاولى التي يتعرض فيها القضاء في لبنان للمصاعب، ولكنها حتماً المرة الاولى التي يظهر فيها واهناً ومترنّحاً بفعل الضربات التي تعرّض لها من الداخل، فضربات الخارج باتت امراً معتاداً ويمكن تخطّيها بالصبر والحنكة، اما ضربات الداخل فلا يمكن تفاديها او الالتفاف عليها، لذلك تراها اكثر صعوبة وجدية من الضربات الخارجيّة.

فعلياً، يجب عليه ان يصدر قرارات واضحة ولا لبس فيها بالمواضيع التي تطرح امامه، ولكننا نراه عاجزاً عن تطبيق اي قرار يصدر عنه من جهة، وعن اصدار آخر في مسائل مهمّة من جهة ثانية، هو امر غير سليم ولا يمكن الابقاء عليه، لانّ من شأنه الاساءة بشكل كبير اليه ككل اولاً، والى صورة لبنان في الخارج ثانياً، ناهيك عن تشريع الباب امام التدخّلات في الشؤون القضائيّة من كل ميل وصوب، وتسريع مهمة تجريده من صلاحياته وكسر صورته تماماً بحيث يصعب إصلاحها في المدى المنظور.

يعمل الجميع لـ"القضاء" على القضاء، ولكنهم يقومون بعملهم تحت ستار "المحافظة عليه" واحترام الدستور والقوانين، وهي اخطر مرحلة يمكن الوصول اليها، لان ما يليها هو الانهيار التام لاي مؤسسة في اي بلد، مع التذكير بأن القضاء معني بكل الملفات والمواضيع، وغيابه التام يعني اسقاط ما تبقى من امل في استعادة لبنان عافيته وقدرته على السير في الطريق الصحيح لاي تغيير او تصحيح مرجوّ. وبكل بساطة، يعيش القضاء اليوم فترة يصح فيها القول انه "مغيّب مع وقف التنفيذ" بحيث انه حاضر بالشكل، فيما يغيب بالفعل عن كل الاحداث والتطورات التي تتطلب منه مواقف مميزة وجريئة.