لا تزال الأزمة الدبلوماسية بين لبنان ودول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، تطغى على كلّ الاهتمامات المحلية، في ضوء "محاولات الاحتواء" المستمرّة لها، من خلال "الرسائل" التي يوجّهها رئيسا الجمهورية ميشال عون والحكومة نجيب ميقاتي إلى المعنيّين، عبر تأكيد حرص لبنان على "أفضل العلاقات" مع "الأصدقاء".

وإلى جانب المساعي الداخلية، تستمرّ الوساطات والجهود الخارجيّة على الخط، فبعد زيارة الأمين العام المساعد للجامعة العربية السفير حسام زكي الأسبوع الماضي، والتي تحدّثت خلالها عن "ثقب في الباب" يمكن الولوج من خلاله، يحطّ في بيروت موفدان قطري وتركي هذا الأسبوع، بالعنوان نفسه، أي "احتواء الخلاف" القائم.

لكنّ كلّ المؤشّرات لا تدلّ حتى الساعة على أنّ مثل هذا "الاحتواء" ممكن، وهو ما تجلّى في التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الذي أعاد "تأكيد المؤكد" حول الخلفيّات الحقيقيّة للأزمة، وهي التي تتجاوز تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي، وترتبط مباشرة بـ"هيمنة حزب الله" على القرار الداخلي.

وإذا كان الوزير السعودي حكم سلبًا على كلّ الوساطات والجهود قبل أن تنضج، بتأكيده أنّ السعودية لا ترى "فائدة" في التواصل مع الحكومة اللبنانية حاليًا، ولو من باب فهم وجهة نظرها، ثمّة من ذهب أبعد من ذلك، ليؤكد أنّ الأزمة غير المسبوقة لن تنتهي قريبًا، بل إنّها "ستصمد" إلى "ما بعد" الانتخابات، وقد تكون جزءًا من الحملات الدعائية.

في هذا السياق، ثمّة من يقول إنّ السعودية نجحت في فرض "أجندتها" على الانتخابات المفترضة خلال أشهر، بعدما أعادت توجيه "البوصلة" وفق تفضيلاتها، ليعود الخطاب المناهض لـ"حزب الله" هو المسيطر على الساحة السياسية، بعد أن "انكفأ" لفترة طويلة، تحوّل فيها الكثير من المحسوبين على المملكة إلى "حلفاء مستترين" للحزب.

لهذه الأسباب، يستبعد الكثير من المتابعين إمكانية تجاوب القيادة السعودية، في الفترة الحالية على الأقلّ، مع محاولات احتواء الأزمة، مهما بلغ حجمها، لأنّ ثمّة عملاً بدأ لتوظيفها في السباق الانتخابي، الذي تتطلع إليه السعودية، كغيرها من دول الإقليم، لعلّه يفرز خريطة سياسية جديدة، ويشكّل "ثورة" على النخب السياسية التقليدية والنافذة.

من هنا، يأتي ما يُحكى عن "شروط تعجيزية" تفرضها الرياض على المسؤولين اللبنانيين لحلّ الخلاف، وهي تدرك أنّ "أصدقاءها" في لبنان "عاجزون" عن تلبيتها، بالنظر إلى "الخصوصية اللبنانية" المعروفة، ولو كانت العبارة بحدّ ذاتها "مستفزّة" للكثيرين، ومن بين هذه الشروط مثلاً أن "تعتذر" حكومة لبنان وتصدر بيانًا ضدّ "حزب الله"، وهو الشريك الأساسيّ فيها، والذي لا يزال معطّلاً لعملها ومانعًا لاجتماعها منذ أسابيع.

ويُقال إنّ المسؤولين السعوديين أبلغوا نظراءهم اللبنانيين، بصورة غير مباشرة، أنّ استقالة أو إقالة وزير الإعلام لن تجدي نفعًا، وأنّها لن تقدّم أو تؤخّر، خصوصًا بعدما تأخّرت كلّ هذا الوقت، وهو ما بات يدركه من يضغطون في لبنان لانتزاعها، لكنّهم يعتبرون أنّها يمكن أن تشكّل بادرة "حسن نيّة"، من شأنها أن تؤسّس لحوار صادق وشفّاف يغوص في "عمق" الخلاف، ويحاول معالجته على أسس "متينة".

ومع أنّ هناك من قرأ في الخطاب الأخير للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله "مرونة وليونة"، أتت مخالفة لبعض مواقف وتصريحات قادة الحزب الذين تحدّث بعضهم عن "عدوان سعودي"، حيث بدا أنّه "انتقى" مفرداته بعناية، وتعمّد نفي "الهيمنة"، مستدلاً بـ"عجزه" عن تنحية قاضٍ، إلا أنّه من المُستبعَد أن ينعكس هذا الخطاب ارتياحًا على خط العلاقات، أو تراجعًا في "مستوى" الإجراءات الخليجيّة ضدّ لبنان.

إزاء ما تقدّم، يكاد الكثير من المتابعين يجزمون أنّ محاولات الاحتواء القائمة، داخليًا وخارجيًا، لا تتجاوز منطق "رفع العتب"، أو ربما تهدف إلى "تقليل" أثر الإجراءات إلى الحدّ الأدنى، ومنع تفاقمها أكثر، خصوصًا في ضوء الكثير من التسريبات التي تتحدّث عن المزيد من الخطوات "التصاعدية" التي سيُكشَف النقاب عنها في الأيام المقبلة، ومن بينها فرض حصار كامل على لبنان، وربما ترحيل بعض المقيمين في الخليج.

في هذا الإطار، يرى البعض أنّ هذه الأزمة أضحت، من حيث يدري القائمون عليها أو لا يدرون، جزءًا من "العدّة الانتخابية"، علمًا أنّ هناك من يتحدّث عن مساعٍ تبذلها الرياض لإعادة جمع "الأضداد" في حلفٍ انتخابيّ واحد، يعيد إحياء تجربة "14 آذار"، أو "يستنسخها" لصالح تحالف أوسع، يشمل بعض وجوه ورموز المجتمع المدني، الذي يجاهرون بمعارضتهم لأجندات إيران، و"حزب الله" من خلالها.

ولم يكن خافيًا على أحد "التناغم" الذي سُجّل في الأيام الأخيرة بين القوى التي كانت منضوية سابقًا في إطار "14 آذار"، ولا سيما "القوات اللبنانية" و"تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" إضافة إلى حزب "الكتائب اللبنانية"، حيث تبنّت بمجملها خطابًا واحدًا مؤيّدًا لدول الخليج، ومتفهّمًا لهواجسها "المشروعة"، ومعارضًا لـ"حزب الله" والأجندة التي يعمل على "تنفيذها" في لبنان، رغمًا عن القوى "السيادية".

لكنّ هذا "التقاطع" لم يرقَ بعد إلى مستوى "التحالف"، ولو كان انتخابيًا، أو وفق مفهوم "القطعة" الذي ساد في انتخابات 2018، ويتحدّث البعض عن "موانع" كثيرة لا تزال تحول دون ذلك، من بينها أنّ هناك "طرفًا ثالثًا" أفرزته الأشهر الأخيرة لا يمكن القفز فوقها، ومن بينها أيضًا أنّ الكثير من هذه القوى "متنافرة" فيما بينها، ولا يمكن أن تجتمع مجدّدًا في جبهة واحدة، ومن بينها على سبيل المثال، لا الحصر، تيار المستقبل والقوات اللبنانية.

وثمّة من يضيف إلى الصعوبات اللوجستية في هذا الإطار، ما يمكن وصفها بـ"أزمة تيار المستقبل"، الذي بات تردّي علاقته بالسعودية "مفضوحًا"، حتى إنّ هناك من يقول إنّ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري قد "يعزف" عن خوض الانتخابات من أساسها لهذا السبب، وما يزيد من المخاوف في هذا الشأن، أنّ هناك "بدائل سنية" تسعى لكسب الرضا السعودي، من بينها بهاء الحريري، شقيق سعد، ما يعيق احتمال "إحياء" التجربة السابقة.

هكذا، يبدو أنّ الأزمة مع السعودية والخليج دخلت في "بازار" الانتخابات المفترضة، بعدما سبقتها إليه تجاذبات وتحديات بالجملة. كلّ ذلك يحصل على وقع ارتفاع "جنوني" جديد في سعر الدولار، وغلاء فاحش ينتظر أن يرتفع أكثر، ما قد يترجم كوارث بالجملة، قد تشكّل "قنبلة اجتماعية" بالمعنى الحرفية للكلمة، والخشية الأكبر من أنّ "انفجارها" قد لا ينتظر الانتخابات قبل أن يقع!.