منذ ما قبل الأزمة الدبلوماسية مع بعض الدول الخليجية، كانت الكثير من الأسئلة تطرح حول واقع الساحة السنية في لبنان مع تراجع حضور تيار "المستقبل"، في ظل توتر علاقة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري مع السعودية. نظراً إلى أنه في المشهد العام لم يظهر أن هناك من هو قادر على ملء الفراغ الذي سيخلفه "المستقبل".

تلك الأسئلة ظهرت بشكل قوي تحديداً عام 2017، أي قبل موعد الإنتخابات النيابية الماضية، والإجابة عليها كانت تنطلق من الخطوات التي قد تقدم عليها الرياض. بعد أن تجاوز الحريري رغبتها بدعم واضح من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي تولى، بناء على إتصالات قامت بها جهات لبنانية عدّة لإخراجه من مأزقه.

طوال الفترة الفاصلة، بين العام 2017 والأزمة الدبلوماسية اليوم، لم تظهر على الساحة السنية أي شخصية تستطيع الادّعاء أنها تحظى بالرعاية السعودية الواضحة، خصوصاً أن المملكة نفسها لم تكشف عن أي توجه جديد. حيث كان المشهد العام يوحي بأنها تريد الإبتعاد عن كل الملف اللبناني، بسبب قناعة لديها بأنّ كل الدعم الذي قدمته لقوى وشخصيات سياسية، على مدى السنوات الماضية، كان من دون نتيجة تذكر.

في الفترة نفسها، ظهرت شخصيات وقوى الفاعلة على الساحة السنية تريد المزايدة على رئيس الحكومة السابق في مواقفه، سواء من داخل بيته السياسي كرئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة والوزيرين السابقين نهاد المشنوق وأشرف ريفي، أو من خارج هذا البيت. وكان آخرها شقيقه رجل الأعمال بهاء الدين الحريري، الذي وجد، بعد إندلاع إنتفاضة السابع عشر من تشرين الأول من العام 2019، أن الفرصة مناسبة للعودة إلى مشروعه الذي كان قد كشف عنه في العام 2017.

قبل إنفجار الأزمة الدبلوماسية، كان الجميع يتحدث عن تخلي السعودية عن الحريري، لكن من دون أن يقدم أحد تفسيراً واضحاً حول رؤيتها في لبنان، الساحة التي تمتلك فيها، على الأقل منذ إتفاق الطائف، نفوذاً واسعاً. حيث كان هناك من يعتبر أنها تنتظر نتائج الإنتخابات النيابية المقبلة، في العام 2022، لمعرفة التحولات داخل الطائفة السنية بشكل أساسي.

في المقابل، كانت تظهر مؤشرات قوية على أن الرياض باتت تعتبر أن رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع هو حليفها الأول في لبنان، أي أنها تخلت عن الطابع الإسلامي أو السني تحديداً لنفوذها، بعد أن كان المفتاح في يد عائلة الحريري. الأمر الذي فتح معه الباب للسؤال عن النفوذ داخل هذه الطائفة، نظراً إلى أنّ التركيبة اللبنانية تفترض وجود راعٍ إقليمي قوي لكل طائفة.

حتى اليوم، لا يمكن الحديث عن أن السعودية قررت الإنسحاب بشكل كامل من الملف اللبناني، حيث أن "حردها" الحالي قد يكون بهدف العودة من بوابة تحسين شروطها أو دفع حلفائها إلى التحرك لتعديل موازين القوى لصالحها. لكن في المقابل هذا لا يلغي معادلة أساسية مفادها أنه، بالإضافة للطموحات المحلية من أجل ملء فراغ المستقبل، هناك من يطمح لتعويض الفراغ الذي يخلفه غيابها عن الساحة اللبنانية.

في هذا السياق، تبرز أدوار بعض حلفاء السعودية، كمصر والإمارات، حيث كان ينظر إلى الأولى على أساس أنها قادرة على تولي هذه المهمة، نظراً إلى الثقل الذي تشكله في العالم الإسلامي، بينما الثانية، على الرغم من أنها متحالفة مع الرياض، لم تغلق كل أبوابها بوجه حلفائها في لبنان، خصوصاً الحريري الذي بات يقيم على أراضيها. بينما في المقابل تبرز أدوار لقوى أخرى تصنف على أساس أنها من القوى المنافسة لها، أبرزها تركيا.

طموح أنقرة في لبنان ليس بالأمر الجديد، حيث أن حضورها، في السنوات الماضية، كان ملحوظاً بشكل قوي لا سيما في طرابلس والشمال، إلا أنه لم يصل إلى الحد الذي من الممكن أن ينافس النفوذ السعودي. وهذا الأمر يعود بالدرجة الأولى إلى عدم حماسة غالبية القوى السياسية الفاعلة على الساحة السنية إلى التعاون معها، خوفاً من تداعيات ذلك على علاقاتهم مع الرياض. وهو ما يفسر تراجع بعضها عن إيجابية كان قد أبداها في الماضي.

اليوم يعود الحديث عن هذا الطموح من جديد، نظراً إلى أن الطبيعة تكره الفراغ، وبالتالي الإنسحاب السعودي من المفترض أن يقود إلى حضور آخرين إلى هذه الساحة، لكن السؤال الأساسي هو هل فعلاً الرياض قررت الإنسحاب بشكل نهائي من لبنان. الإجابة على هذا السؤال، غير المتوفرة بشكل حاسم في الوقت الراهن، من الممكن أن تكشف عما يمكن أن يحصل في المرحلة المقبلة، لكن الأكيد أنه في الوقت الفاصل يبدو ان الساحة السنية ذاهبة إلى المزيد من الشرذمة، التي تفتح شهيّة المزيد من اللاعبين المحليين أو الدوليين.