هوذا عنوانٌ لمعركة التمسّك بالهويّة اللبنانيّة. والهويّة قبل أيّ أمر معركة استحقاق مستدام لا يطويه مرور زمن. أجل! لا يكفي أن تولد لبنانيّاً بل أن تستحق ما أنت تنتمي إليه. ليس في الأمر شوفينية، تلك العاهة التي تجعلك مُقدِّسَاً لِذاتِك ومُشيطِناً للآخر حدَّ التمزّق بالكراهية.

المعنى والغاية

من هنا المنطلق للأجابة على السؤال الوجودي الأهّم: ماذا يعني أن تكونَ لبنانيّاً اليوم؟.

قد تسهل الاجابة بمعنىً أوّلي: الفرادة. حسناً، فيه بعض الحقيقة لا جُلَّها. فكلُّ هويةٍ فرادةٌ ولديها ما تقوله. لكن لفرادة الهوية اللبنانيّة غاية هي الأساس: الاعتراف أنَّ لكلِّ مُضطهَدٍ وخائفٍ في هذا الشرق، راجمِ المُرسلين إليه، الحقّ الأنساني في الوجود. وليس أيّ وجود: بل الحرّ والمتفاعل. هذا ليس مجّرد نوع من انواع التسامح التي تتغنّى بها مصطلحات المواثيق المعاصرة. بل الاعتراف بتأنسن العلاقات بالتنوّع، وبأحقيّة الآخر المختلف بالمساواة.

وهذا نقيض مقاربات الأمبراطوريّات القاتلة التي ركيزتها: الأنصهار الجبري في بوتقةٍ واحدة، وإلغائيّة التمايزات حدّ معاكسة نواميس الطبيعة، من إمبراطوريات ميزوبوتاميا والفرس والفراعنة المتألّهين، الى إمبراطوريّات الاسكندر وقياصرة روما وصولاً الى بونابرت وهتلر، وإنتهاءً بإيديولوجيَّات النُظُم التيوقراطيّة والشيوعيّة، وكلّها أرسَت أنظمةً متعسكرة تحكمها أوليغارشيّة مرهوبة...

لبنان، الضارب في التاريخ، طوّر صيغةً متناقضة، سَنَدُها الحوار لغةَ تَعَاطٍ مشترك، إنطلاقاً اولاً من الأبجديّة التي إخترعها كأكثر الطرق سلميّة لبلوغ الآخر كما أقصى حدود العالم، وثانياً من الإيمان كوسيلة ارتقاءٍ من المادون الى الماوراء.

إبن هويات متعدّدة

أنتَ اللبنانيّ لست بذلك أبداً إبن الـ"كايوس"، تلك الفوضى الشاملة التي لا خلاص فيها ومنها. أنتَ إبن الوعي، وهويّتك اللبنانيّة معركة تحرّر، في تنوعهّا المثري، وتميّزها القائم على السير عكس التيّارات الجارفة للحضارة، على الرغم من القلقِ المواكبِ دائماً لمفاجآت قبول الآخر، وصعوبات بناء الوحدة وقِوَامها الإغتناء بالتنوّع، بما يتطلّب ذلك من تطوير وتأوين.

ألا فانظُر: أنتَ اللبنانيّ، آراميّ سرياني مارونيّ تحمل إرث شهادة العراء ومغاور النسك ومعاقل الفكر، وروميّ ملكيّ تحمل إرث إنطاكية مدينة الله العظمى وريثة بيزنطيا، وأرمني تحمل إرث البدايات المسيحانيّة وتضحياتها، وسنيّ تحمل إرث الدعوة وقربى النبوّة، وشيعيّ تحمل إرث الكربلائية ووثوقها بالحق، ودرزيّ تحمل إرث الحكمة ممّا قبل المسيح الى ما بعده. ويهوديّ تحمل إرث العهد القائم أبداً بين الله والانسان.

هوذا أنتَ كلّه في آن. فأنتَ تحدّد نفسك بإزائيّة تعني الكثرة وتنزع الى الوحدة. لكَ إذاً هوية واحدة من هويات متعدّدة ولا أغنى.

خطيئتك المميتة، إن أقدَمتَ على اختزال هذا الغنى المتفاعل من الماضي الى ما بعد بعد المستقبل وما وراء وراءه، لتسجن نفسكَ في صفةٍ وحيدةٍ، تغدو بها إنعزاليّاً.

واطمئن! امبراطوريات الوحدانيّات حاولت كلّها إبادة لبنان الهوية، هذا مذ أراد لذاته ان يكون. إقرأ اسماءها على صخور نهر الكلب. هي زالت، وهو بقي.

واعلَم أنّ عالم اليوم المتعولم، ذاك الذي يدّعي بخبثٍ الإنفتاح فيما يبتكر اشكال التقوقع، لن يكون خلاصه إلّا بكَ.

ولا أغالي.

كن أنتَ لهذا العالم فجرَ وجودِه، حاملاً إلى قلبِه وعقلِه، وإنكساراتِهِ، هويّتكَ وهي فجرُ وجودِكَ، وقد إستحقيّتها بمعرفتِكَ وبطولتِكَ... وحقيقتِكَ!.