يتطلّع كثيرون إلى الانتخابات النيابية المقبلة، المهدَّدة حتى إثبات العكس، لاعتقادهم بأنّها ستفرز خريطة سياسية جديدة، مغايرة في الشكل والمضمون لتلك القائمة حاليًا، ويذهب البعض في "تفاؤله" لحدّ التكهّن بأنّ الاستحقاق الديمقراطيّ المُنتظَر سيشكّل "انقلابًا" بالمعنى الحرفي على الطبقة السياسية الحاكمة، بعدما أوصلت البلاد إلى ما وصلت البلاد.

قد يكون هذا التفاؤل أكثر من مشروع، بل منطقيّ وبديهيّ، لأنّ "مبايعة" طبقة سياسية يتحمّل أركانها المسؤولية عن تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي في البلاد، ووصول الدولار إلى مستويات قياسيّة لم يكن أحد ليخالها، وانعكاس ذلك غلاء فاحشًا في أسعار المواد الاستهلاكية والأساسية، أمر يبدو بالنسبة لكثيرين "ضربًا من الخيال" في أحسن الأحوال.

إلا أنّ "الرهان" على "التغيير الحتميّ" في الانتخابات، إن حصلت، قد لا يكون في مكانه أيضًا، للعديد من الأسباب والاعتبارات، من بينها ربما "الحيثية" التي لا تزال القوى السياسية تتمتّع بها إلى حدّ بعيد، بأبعاد طائفية ومذهبية، ولكن أيضًا لغياب "مشروع بديل" حقيقي لا يبدو المجتمع المدني، بتشتّته وانقسامه، قادرًا على "ضمانه"، أقلّه حتى الآن.

لعلّ انتخابات نقابة المحامين التي شهدتها عطلة نهاية الأسبوع خير دليلٍ على ذلك، حتى لو كان صحيحًا أنّ الطبقة الحاكمة لم تحقّق "انتصارًا كاسحًا" على خطّها، خلافًا لكلّ ما يتمّ ترويجه، باعتبار أنّ النقيب الجديد ناضر كسبار "مستقلّ"، وفق ما يصنّف نفسه، وإن "دعمته" العديد من القوى السياسية، التي كان بعضها للمفارقة يساند غيره، حتى اللحظات الأخيرة.

فحتى في حال افتراض أنّ القوى التقليدية لم "تنتصر" في هذه الانتخابات، يبقى الثابت والأكيد أنّ قوى ما يُعرف بـ"الثورة" كانت "الخاسر الأكبر" في هذه الانتخابات، وقد مُنيت فيها بهزيمة كاسحة، بعد "انتصار" غير مسبوق قبل عامين، أوصل ملحم خلف، الآتي من "رحم" ثورة 17 تشرين، إلى منصب "النقيب" في "سابقة" من نوعها لم تصمد كثيرًا.

تشتّتت هذه القوى، وانقسمت مجموعاتها على ثلاث لوائح متباينة ومتناقضة، لأسباب عديدة، بينها رفض بعض المجموعات التحالف مع "الكتائب"، وبينها التباين حول بعض الأسماء، وعدم التوافق على مرشح محدّد لمنصب النقيب، فكانت النتيجة أنّ هذه القوى عجزت عن إيصال مرشح واحد إلى عضوية النقابة، بعدما كانت تعتقد أنّها قادرة على "اكتساحها".

في اليومين الماضيين، كثرت التحليلات والتفسيرات لما حدث في "أم النقابات"، فهناك من عزا النتيجة إلى تجربة عهد النقيب ملحم خلف التي جاءت "مخيّبة للآمال"، بعدما كان انتخابه "واعدًا"، حيث اقتصرت "الإنجازات" على بعض الشعارات الإعلامية والاستعراضات السياسية، والتي اختلطت بمجملها بأداء "شعبوي" بامتياز.

لكنّ هذا الرأي يصطدم في المقابل، بوجهة نظر يدركها المحامون قبل غيرهم، وتقوم على أنّ الحكم على عهد النقيب خلف بهذه الطريقة ينطوي على "ظلم كبير"، خصوصًا أنّ الرجل فعل أكثر ممّا يستطيع، لكنّ الظروف التي مرّت بها البلاد لم تسعفه كثيرًا، بين جائحة كورونا التي فرضت نفسها، والوضع الاقتصادي الذي عطّل كلّ شيء، وهجّر المحامين كغيرهم.

هناك أيضًا من رمى الكرة في ملعب القوى السياسية التي "لعبتها صح"، فهربت من المواجهة، عبر الحرص على عدم ترشيح "حزبيين" لمنصب النقيب، لإدراكها أنّ حظوظهم ستكون منعدمة، وذهبت لدعم مرشح "مستقل" له باع طويل في العمل النقابي، وقد نجح على مرّ السنوات في نسج علاقات "متينة" مع مختلف الفرقاء والأطراف الفاعلين في النقابة.

إلا أنّ الأكيد يبقى أنّ كلّ هذه "التبريرات" لا تعدو كونها "ذرائع" لتغطية "الخطيئة الكبرى" التي ارتكبتها القوى المدنية، والتي شكّلت "استنساخًا" للنهج الذي تبنّته في الانتخابات النيابية عام 2018، حيث اختارت خوض الانتخابات منقسمة ومشتّتة، بدل أن تتوحّد جميعها في لوائح واحدة بمشروع محدّد، الأمر الذي أطاح بكلّ أمل بالتغيير.

من هنا، يصبح توقّع تكرار "السيناريو" نفسه في الانتخابات النيابية المقبلة أمرًا بديهيًا، بل محتّمًا، إذا ما أصرّت هذه القوى على مواصلة تبنّي المقاربة نفسها للأمور، ورفضت القفز فوق خلافاتها "الشخصية"، وتقديم "تنازلات" في بعض الأماكن لتقريب وجهات النظر، مراهنة فقط على "نفور" الناس من القوى السياسية التقليدية.

فإذا كان صحيحًا أنّ شريحة واسعة من الناس لم تعد تؤمن بالطبقة الحاكمة، وتحمّلها مسؤولية كل الأزمات المتفاقمة، فإنّ الصحيح أيضًا أنّها تبحث عن مشروع "بديل" حقيقي وثابت، ينبغي على قوى "الثورة" تأمينه، بعيدًا عن الاكتفاء بالخطاب الشعبوي المناهض للسلطة، والقائم على شعار "كلن يعني كلن"، وكأنّ "الخلاص" من النخب السياسية يؤمّن تلقائيًا الحل.

من هنا، قد يكون مطلوبًا من قوى "الثورة" استخلاص العِبَر من "درس" نقابة المحامين فورًا، ومنع القوى السياسية من "استغلال" انقسام القوى المدنية على بعضها البعض، لـ"التسلّل" إلى المشهد كما لو أنّ شيئًا لم يكن، وهو خيار يقول العارفون إنّه أكثر من وارد، بالنظر إلى المعطيات الحاليّة والظروف المحيطة.

كلّ شيءٍ يفترض أن يؤدي إلى "تغيير" الطبقة السياسية في أيّ انتخابات مقبلة، ولهذا ربما تخسى القوى التقليدية الاستحقاق، وتسعى لـ"تطييره" عن بكرة أبيه. لكنّ كلّ شيء يؤكد أيضًا أنّ "البديل" لم يتوافر حتى الآن، وأن المجتمع المدني لا يزال "يتخبّط"، حتى إثبات العكس، مقدّمًا بذلك "هدايا مجانية" للسلطة، قد تشهد الانتخابات المقبلة على "ذروتها"!.