لم يكن لبنان يومًا بمنأى عن التأثيرات الإقليميّة والدَوليّة في شؤونه الداخليّة، وفي مَفاصل حياته السياسيّة الرئيسة، وحتى الثانويّة في بعض الأحيان. فمن هي القوى الإقليميّة التي تؤثّر في لبنان حاليًا؟.

منذ بداية التسعينات، وبتوافق إقليمي–دَولي، تسلّم النظام السُوري الملفّ اللبناني، وتحكّم بالشاردة والواردة فيه–إذا جاز التعبير، في حين حاولت السُعوديّة في تلك الفترة، الحفاظ على نُفوذ جزئي بخلفيّة إقتصاديّة، ضُمن هذا الواقع. اليوم، تبدّلت الأمور كثيرًا، بعد تغييرَين جذريَين حصَلا في العقدين الماضيين، وقد باتت إرتداداتهما أكثر وُضوحًا خلال السنوات القليلة الماضية، هما:

الأوّل: إنحسار الدور السُوري في الحياة السياسيّة الداخليّة اللبنانيّة بشكل كبير، لصالح تنامي الدور الإيراني بشكل كبير أيضًا، بحيث إنتقل القرار النهائي والحاسم من يد رؤساء الإستخبارات العسكريّة السُوريّة في لبنان، أمثال غازي كنعان ورستم غزالي، عبر نُفوذ جيش الإحتلال السُوري آنذاك، إلى يد "رأس حربة" إيران في لبنان، أي "حزب الله" والأمين العام للحزب السيّد حسن نصر الله، في السنوات القليلة الماضية وُصولاً إلى اليوم.

الثاني: إنحسار الدور السُعودي تدريجًا وتصاعديًا، منذ لحظة إغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، مُرورًا بتشتّت وتفرّق القوى السياسيّة اللبنانيّة التي تدور في الفلك السُعودي–إن التقليديّة أو المُستجدّة منها، وُصولاً إلى الخلاف الكبير بين رئيس الحكومة السابق سعد الحريري والسُعوديّة في مرحلة أولى، ثم تأزّم العلاقات الثنائيّة بين لبنان ومُعظم دول الخليج بقيادة المملكة السُعوديّة في مرحلة ثانية.

وفي ظلّ هذا الواقع، حاولت-ولا تزال، أكثر من دولة تعبئة الفراغ الذي تركته السُعوديّة في الساحة اللبنانيّة، لا سيّما تركيا ومصر وقطر، إلخ. لكنّ تركيا التي إزداد نُفوذها الإقليمي بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية، وصارت تتمتّع بتواجد سياسي في أكثر من دولة إقليميّة، وحتى بتواجد عسكري عبر قواعد عسكريّة ووحدات قتاليّة خارج حُدودها، لم تستطع الحلول مكان السُعوديّة في لبنان، على الرغم من تقديمها المُساعدات الماليّة والماديّة للعديد من الشخصيّات والهيئات السنيّة بشكل خاص، ومن تقديمها أيضًا منحًا دراسية لطلاب لبنانيّين في أراضيها، إلخ. وبالنسبة إلى مصر فإنّ تموضعها السياسي العام، لا يسمح لها بإستعادة النُفوذ الذي كان لها في لبنان أيّام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وقدرتها على التأثير في السياسة اللبنانيّة الداخليّة محدودة نسبيًا حاليًا. وفي ما خصّ قطر التي تُغرّد خارج السرب الخليجي بقيادة السُعوديّة، فهي بدورها غير قادرة على تعبئة الفراغ السُعودي، على الرغم من تمتّعها بقدرات ماليّة ضخمة، وذلك بسبب محدوديّة نُفوذها في البيئة السنيّة اللبنانيّة، وكذلك بسبب دُخولها في خلافات عميقة مع العديد من الأطراف والقوى الداخليّة والإقليميّة، بشأن ما حصل من إحتجاجات و"ثورات" شعبيّة في العديد من الدول العربيّة في العقدين الماضيين.

وبالتالي، من الواضح أنّ النُفوذ السُعودي السابق في لبنان هو اليوم في أدنى مُستوى له لأكثر من سبب، لكن من دون أن تتمكّن أيّ جهة من تعبئة هذا الفراغ، ومن تعويض تراجع الدور السُعودي في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. وهذا ما يُفسّر تغريد إيران عبر حليفها الداخلي، أي "حزب الله"، شبه وحيدة على الساحة الداخليّة، مع بعض الإستثناءات هنا أو هناك، بسبب ما تبقى من نُفوذ سعودي أو عربي هنا، أو ما تبقّى من نُفوذ أميركي أو أوروبي هناك! وما لم يحصل تغيير في هذا الواقع، فإنّ النُفور السُعودي من لبنان سيبقى قائمًا في المدى الَمنظور، ولو بنسب توتّر مُتفاوتة، ترتفع حينًا وتنخفض حينًا آخر. والمُشكلة أنّ التغيير المَنشود مُرتبط بتسويات إقليميّة لم تحصل بعد، خاصة بالنسبة إلى الملفّ النووي الإيراني، وتاليًا بالنسبة إلى علاقات إيران مع الولايات المتحدة الأميركيّة والعالم الغربي بشكل عام. وهذا التغيير المَنشود مُرتبط أيضًا بتسويات مَطلوبة لأكثر من ملفّ شائك آخر، من حرب اليمن وُصولاً إلى الحرب السُوريّة، وما بينهما من ملفّات تشمل العراق وليبيا وغيرهما.

في الخُلاصة، وعلى أمل أن يبلغ لبنان يومًا ما مرحلة النُضج السياسي، ومرحلة المَناعة الداخليّة، بحيث يستقلّ كليًا عن تأثيرات الخارج، لا شكّ أنّ المركب اللبناني تتقاذفه حاليًا أهواء غير لبنانيّة، في ظلّ إنعدام كامل للوزن، بسبب الخلل السياسي الحاصل فيه على مُستوى التوازنات، الأمر الذي يُفسّر غياب التسويات، ويُفسّر أيضًا الكثير من المشاكل والمعاناة التي تُواجه الشعب اللبناني.