إنتشرَت في القَرنِ الثَّالِثَ عشَرَ في أوروبا، أُسطورَةٌ عُرِفَت باليَهوديّ التّائِهِ "Le Juif errant"، تَحكي أنَّ رَجُلًا يَهوديًّا سَخِرَ مِن يَسوعَ عندما كانَ في طَريقِهِ إلى الجُلجُلةِ حَامِلًا صَليبَه. فما كانَ مِنَ الرَّبِّ إلاّ أن لَعَنَهُ بأن يَبقَى حَيًّا تَائِهًا يَجولُ في الأرضِ إلى يَومِ الدَّينُونة.

تختَلِفُ المَصادِرُ حَولَ هذهِ الأُسطُورَة[1]، رُغمَ أنَّ اليَهودَ شُبِّهُوا دومًا بمَن قالَ عنهم هُوشَعُ النَّبي: "يَرْفُضُهُمْ إِلهِي لأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا لَهُ، فَيَكُونُونَ تَائِهِينَ بَيْنَ الأُمَمِ"(هوشع ١٧:٩). وكَذلِكَ تختَلِفُ المَصادِرُ حولَ شخصِيَّةِ هذا التَّائِهِ، مِنهم مَن قالَ هُوَ إسكافيٌّ، وآخرون قالوا إنّه تاجرٌ أو بوّابٌ عِندَ بِيلاطُسَ البُّنطيّ، وأُعطيَ أسماءَ عديدةً مثلاً: يوسف، ومَلْخُسَ وغيرُها.

هذه الأسطورة، عِندنا نحن المسيحيّين، لا تتَّفِقُ مع تَعالِيمِ مُخلِّصنا الذي قالَ على الصَّليبِ: "يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ"(لوقا ٣٤:٢٣)، ولكنَّها قد تُتَرجِمُ صُورةَ الإنسانِ الذي يسيرُ عَكسَ الحَقِّ، ونَحنُ نؤمِنُ بِكُلِّ ثِقَةٍ بِما أعلَنَهُ الرَّبُّ لنا: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ." (يوحنا ٦:١٤).

في اللّاهوتِ نَقولُ، الإنسانُ المسيحيّ يَعيشُ بينَ القِيامَةِ والمَجيءِ الثَّاني، وهذا مَعناهُ أنَّنا أَدرَكنا القِيامَةَ، وأَصبَحَت مِحورَ حَياتِنا، ونَعيشُ بِمُوجَبِها إلى اليَومِ الأخِير. وبِانتِقالِنا مِن هَذِهِ الحَياةِ، نَكونُ في انتِظارِ إصدارِ حُكمِ اللهِ فينا، إذ لا نِهايَةَ في القَبر: "فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ. فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ"(يوحنا ٢٨:٥-٢٩).

الأَساسُ الّذي يَبني عليهِ الرَّبُّ حُكمَهُ هُوَ المَحبَّةُ، لِذا قال: "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا"(يوحنا ٣٤:١٣). والمَحبَّةُ هِيَ بَذلُ الذَّاتِ "كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا"(أفسس ٢٥:٥).

كم هِيَ رَهيبَةٌ ساعَةُ الدَّينُونَةِ تِلكَ، حينَ سَنتعَرَّى مِن كُلِّ شَيءٍ، ويَظهَرُ صِدقُ مَحبَّتِنا. وقَولُ يَسوعَ "كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ"، هُوَ الأساسُ في عَلاقَتِنا بالآخَرِ أينَمَا وُجِدنا. مِن هنا يُترجِمُ المَسيحيُّ القِيامَةَ حَياةَ مَحبَّةٍ للآخَر، وعَكسُ ذَلِكَ تَيَهانٌ في قُبورِ أنانِيَّتِنا المريضَةِ ما لم نتحَرَّر مِنها.

صُورَةُ ذلكَ "اليَهُوديّ التّائِه"، تُذَكِّرُنا بِأوَّلِ جَريمَةٍ في التَّاريخ، عِندما قَتَلَ قَايينُ أخاهُ هابيلَ حَسَدًا، فناداهُ الرَّبُّ: "مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ."، وأكمَلَ: "تَائِهًا وَهَارِبًا تَكُونُ فِي الأَرْضِ"(تكوين ١١:٤-١٢).

مِنَ النَّاحيةِ الفنيّةِ، تُرجِمَت هَذِهِ الأُسطورَةُ أعمَالًا مُختلِفَة، لَوحاتٍ وقِصَصًا أَدبِيَّةً ومَسرحِيّاتٍ وأفلامًا وغيرَها. ومِن بينِها لَوحَةُ الرَّسّامِ الفَرَنسيّ والنَّحّاتِ Gustave Courbet[2]، الذي شَخصَنَ الحَدَثَ، وهو مَعرُوفٌ بِرَسمِه لِشَخصِهِ Autoportrait، في مَشاهِدَ مُختَلِفَةٍ تُعبِّرُ عن حالَتِهِ النَّفسيَّة. اللَّوحَةُ بِعُنوان " La Rencontreاللقاء"، ولها اسمٌ آخرُ "Bonjour Monsieur Courbet صباح الخير سيّد كوربيه"، وهي تُصَوِّرُ استِقبالَهُ مِن قِبَلِ فنَّانٍ يُعتَبَرُ بِمَثابَةِ راعٍ لَه، كما تُصَوِّرُ خادِمَ "كُوربيه"، وكلبَهُ أثناءَ سفَرِهِ إلى مُونبلييه.

لقد تَعَمَّدتُ الاستِشهادَ بِهذا الفَنّانِ، لِما تَحمِلُ لوحاتُهُ مِنَ الإحباط، وتُجَسِّدُ بِالتَّالي الحَياةَ مِن دُونِ الرَّجَاء، خاصَّةً لَوحتُهُ الشَّهيرَةُ جِدًّا "اليائِسُ Le Désespéré ". وهي تُشبِهُ حَالَنا في كُلِّ مَرَّةٍ نَبتَعِدُ فيها عن نُورِ المَسيح.

نحنُ في هَذهِ الأَيَّامِ، نَستَعِدُّ لِلِقاءٍ واستِقبالٍ عَظيمَين لِعيدِ الميلاد، أي ظُهورُ اللهِ في الجَسَدِ وهذا هُوَ اسمُ العيدِ، لأنَّ التَّجسُّدَ تَمَّ لَحظَةَ حَبلِ العذرَاءِ مَريمَ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، عِندَما ظَهرَ لها المَلاكُ جِبرائيل، لِذا يُسمَّى عيدُ البِشارَةِ عيدَ التَّجسُّدِ الإلهيّ.

رِحلتُنا المِيلادِيَّةُ الأربَعِينِيَّة[3]، مَليئَةٌ بالمَحَطَّاتِ الجَميلَة، والمُؤمِنُ يَمُرُّ فيها بِمَنارَاتٍ نُورانِيَّةٍ تُضيءُ طَريقَهُ نَحوَ الطِّفلِ الإلَهيّ، الّذي يَتِشَوَّقُ ليَستَقبِلَنا ويَضُمَّنا إلى صَدرِهِ الدَّافِئ، ويمنَحَنا سَلامَهُ الشَّافي.

مِن هَذهِ المَنارَاتِ، أعيادُ قِدّيسينَ وقِدّيساتٍ عَشِقُوا المَسيحَ، واستُشهِدُوا مِن أجلِهِ، مِثلَ "كاترينا" المُلَقَّبَةِ بِعَروسِ المسيحِ (٢٥ ت٢)، وأَنبياءَ كالنَّبي نَاحوم[4] (١ ك١) الذي اسمُهُ يَعني المُعَزّي، وهُوَ الّذي نادَى بِهَلاكِ كُلِّ مَن يَفعَلُ الشَّر، وأنَّ الربَّ لا يُبرِّئُ الظّالِمينَ إن لم يَتُوبُوا، وتنبَّأَ بِمَجيءِ المُخلِّصِ لِيُعيدَ السَّلامَ، فقالَ: "هُوَذَا عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَا مُبَشِّرٍ مُنَادٍ بِالسَّلاَمِ!" (ناحوم ١٥:١).

والنَّبيُّ حَبَقُوق[5] (٢ ك١) الّذي عاتَبَ الرَّبَّ لِعَدَمِ إنهاءِ حَالَةِ الظُّلمِ الّتي كانت سَائِدَةً في أيَّامِهِ "حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟"، وقالَ أيضًا: "لأَنَّ الشِّرِّيرَ يُحِيطُ بِالصِّدِّيقِ، فَلِذلِكَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ مُعْوَجًّا"(حبقوق ٢:١-٤)، لكن سُرعَانَ ما أَجابَهُ اللهُ "وَيْلٌ لِلْبَانِي مَدِينَةً بِالدِّمَاءِ، وَلِلْمُؤَسِّسِ قَرْيَةً بِالإِثْمِ!"، ويُطمئِنُهُ بِأنَّهُ سَيَسحَقُ رأسَ بَيتِ الشِّرير، والأَرضُ ستَمتَلِئُ مِن مَجدِ الرَّب.

وَأيضًا القدّيسُ بُورفيريوسُ الرَّائي(٢ ك١)، وَهُوَ قِدّيسٌ مُعاصِرٌ، وبَربَارَةُ ويُوحنَّا الدِّمَشقيّ(٤ ك١)، ونِيقُولاوُسُ(٦ ك١)، واسبيريدُونُ(١٢ ك١)، ودَانيالُ والفِتيةُ الثَّلاثَة(١٧ ك١)، وإغناطيوسُ الأنطاكيّ المُتَوشِّحُ بِالله(٢٠ ك١)، بِالإضَافَةِ إلى أَحَدِ الأجدَادِ[6] وأَحدِ النِّسبَةِ[7]، وأَخيرًا ما يُسمَّى بِبارامُون[8] العِيد أي يَومِ تَقدِمَةِ العِيد.

بالعَودَةِ إلى اليَهوديّ التّائه، تأتي لوحَةٌ فنيَّةٌ أُخرى وهِيَ "عَرَبَةُ المَوت Le char de la mort " الشَّهيرةُ، للرَّسامِ الفَرنسيّ Théophile Schuler (القرن ١٩)، لِتَكونَ الخُلاصةَ بِحَيثُ تَضَعُ أمامَنا مَشهَدًا يُظهِرُ كيفَ تئِنُّ البَشريَّةُ مِن أَلَمِ التَّيهانِ في الخَطِيئَة.

باختِصارٍ شَديد، نُشاهِدُ فيها عَرَبَةً يَقودُها مَلاكُ المَوتِ عِندَ المَغيب، وتَجُرُّها هَياكِلُ خُيولٍ عَظمِيَّةٌ. وعلى مَتنِ العَرَبَةِ جَمعٌ غَفيرٌ مِنَ النَّاسِ بينَهُم قايين.

وهذا مَا يَهمُّنا: ففي الجِهَةِ اليُمنى للَّوحَةِ، نَجِدُ يسوعَ مَصلُوبًا على الجُلجُلَةِ، يُقابِلُه في الزَّاوِيَةِ اليُسرَى، وكمَشهَدٍ أساسيّ أَوَّليّ في أسفَلِ اللّوحَةِ، اليَهوديُّ التَّائِهُ في الغَسَقِ يَتمنّى أن يَمُوتَ لِيَرتَاحَ فيُحاوِلُ دُخُولَ جَهنَّم.

ويَا لَلهَولِ، إذ تَقومُ La Camarde، وهي شَخصِيَّةُ المَوتِ الرَّمزِيَّةُ التي على شَكلِ هَيكَلٍ عَظمِيّ، تقومُ بِصَدِّهِ وبِطَردِهِ خارِجًا.

يَا لَفَظاعَةِ هذا الأمر! اليَهوديُّ التَّائهُ يَتمَنَّى نارَ الجَحيمِ لِيَرتَاحَ مِن عَذابَاتِه، ولكِن حتَّى الجَحيمُ تَرفُضُه!.

ألَيستْ جَريمَةً كُبرى بِحَقِّ ذَواتِنا نَحنُ البَشر، أن نَخسَرَ السَّلامَ الأبديَّ مَعَ الرَّبِّ، ونتوهَ في نَزواتِنا الّتي لا سَلامَ فيها ولا راحَة، بينما بابُ الخلاصِ مَفتوحٌ أمَامَنا على مِصراعَيهِ، وإلهُنا القَديرُ ارتَضى أن يُصبِحَ إنسانًا لِخَلاصِنا؟.

على أَملِ أن نُحَدِّدَ الآنَ في أَيَّةِ عَربَةٍ نُريدُ أن نَحجِزَ لنا مَكانًا، في عَرَبَةِ المَوتِ أم في عَرَبَةِ الحَياة.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] تظهر مخطوطات هذا التشبيه من زمن ترتيليانوس - القرن الثاني ميلادي

[2] 1819-1877

[3] التي بدأت في اليوم الخامس عشر من شهر تشرين الثاني

[4] القرن السابع قبل الميلاد

[5] القرن السابع قبل الميلاد

[6] أحد الأجداد هو الأحد الثاني قبل الميلاد، يُذكر فيه كلّ مَن سبق المسيح بالجسد مِن آدم حتّى القدّيس يوحنا المعمدان، وهم سحابة مِن الشهود.

[7] أحد النسبة هو الأحد الأوّل قبل الميلاد يُقرأ فيه الإصحاح الأوّل مِن إنجيل متى، تأكيدًا أن المسيح هو مِن نسل ابراهيم وداود.

[8] البارامون كلمة يونانيّة تعني الانتظار، وهو الذي يسبق العيد مباشرةً. يتخلّله صلوات وقراءات مِن العهد القديم والجديد ورسائل وأناجيل

(الساعات الملوكيّة)، وغروب، وقدّاس القدّيس باسيليوس.