في الحديث الصحافي الأخير الذي نُسب إليه، ولو لم يؤكده مكتبه الإعلامي أو ينكر صحّته، قال رئيس الجمهورية ميشال عون إنّه لن يسلّم البلاد عند انتهاء ولايته إلى "الفراغ"، متمسّكًا بالمعادلة التي يؤكد أنّه كرّسها في قصر بعبدا، ومفادها أنّه لن يكون رئيس بعده كما قبله، في "تناغم" مع مفهوم "الرئيس القوي" الذي أطاح بذاك "الرمادي" الذي كان غالبًا في السابق.

خضع كلام الرئيس عون، الذي تزامن مع انطلاق السنة الأخيرة من الولاية الرئاسية، للكثير من الفحص والتدقيق، وأثار في الوقت نفسه الكثير من الجدل، كما فتح الباب واسعًا أمام مجموعة من "التكهنات" حول ما قصده بكلامه، وما إذا كان يمهّد بشكل أو بآخر للتمديد لنفسه، عبر رفض مغادرة "القصر" إذا لم يتمّ انتخاب "خلف" له في المهلة الدستورية.

ولعلّ ما عزّز الشكوك ما يُحكى منذ فترة ليست بقصيرة، ولو أنّ "التيار الوطني الحر" يضع في خانة "الحملات المغرضة" التي تُشَنّ على "العهد"، منذ اليوم الأول، حيث يتحدّث خصومه عن "خلية نحل" في قصر بعبدا يتركّز عملها على إعداد "المَخرَج الدستوري" الذي يتيح بقاء رئيس الجمهورية في موقعه، إذا لم يتمّ التوافق على الوزير السابق جبران باسيل لخلافته.

فما صحّة مثل هذا الكلام؟ وما الذي قصده الرئيس عمليًا بالكلام "المشفّر" الذي أطلقه، أو بالحدّ الأدنى نُسِب إليه؟ هل يفكّر الرجل فعلاً بالتمديد لنفسه، وهو الذي لطالما كان رافضًا، بل مشيطنًا لفكرة التمديد؟ وفي مطلق الأحوال، لماذا "فُتِحت" المعركة الرئاسية قبل أوانها، والبلاد لم تدخل بعد أجواء الانتخابات النيابية المفترضة خلال أشهر قليلة؟.

كما كان متوقَّعًا، تباينت الانطباعات وردود الأفعال على كلام الرئيس عون، بين مؤيّديه الذين رحّبوا بالفكرة، وبعضهم "يجاهر" أساسًا بوجوب بقاء رئيس الجمهورية في قصر بعبدا، بعد انتهاء الولاية، وبين هؤلاء جزء من "النخبة" في "التيار"، في مقابل خصومه، الذين "قوّلوا" الرئيس ما لم يقله، وذهبوا لحد الحديث عن "سيناريو" مجهّز سلفًا للتمديد لرئيس الجمهورية، بمُعزل عن كلّ الظروف المحيطة.

لكنّ "العونيّين" الذين يبدون "حماستهم" لرؤية انفعال البعض وخوفهم من إمكان بقاء الرئيس عون في موقعه لوقت إضافي، يعتبرون أنّ كلّ هذه الاستنتاجات لا تمتّ إلى الواقع بصلة، وهي انطلقت من "تأويل خاطئ"، وربما متعمّد، لكلام رئيس الجمهورية، أخرجه عن سياقه في المطلق، بل أفرغه من مضمونه، في حين أنّ مواقف الرجل كانت مبدئية وعامة، وتندرج ضمن "الثوابت" التي يعبّر عنها منذ وصوله إلى قصر بعبدا، وحتى ما قبل ذلك.

يلفت هؤلاء في هذا السياق إلى أنّ عون حرص في مواقفه الأخير على التأكيد على "المَكسَب" الذي تحقّق بانتخابه رئيسًا للجمهورية، والذي لا ينبغي "التفريط" به، ولو حاول البعض التقليل من شأنه، وهو أنّ رئيس الجمهورية بات له وزنه وثقله، وهو الذي يمكنه أن يأتي بحيثية تمثيلية واسعة، خلافًا لما دأب عليه الرؤساء في السابق، الذين ما كانوا يغادرون مربع "الرمادية"، خشية "غضب" قد يترتّب على أيّ موقف يتّخذونه من هذا الطرف أو ذاك.

أما حديث الرئيس عون عن "الفراغ"، فلا يُعَدّ جديدًا هو الآخر وفقًا لـ"الرواية العونيّة"، إذ إنّ كلّ ما قصده رئيس الجمهورية لا يتعدّى ضرورة وجود "بديل" حقيقي يمكنه استلام صلاحيات الرئاسة في حال وقوع "المحظور"، وعدم انتخاب رئيس جديد ضمن المهلة القانونية، وهو بذلك لا يخالف الدستور على الإطلاق، وهو الذي ينصّ صراحةً في المادة 62 على أنّه "في حال خلو سدة الرئاسة لأية علة كانت، تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء".

وبالفعل، سبق أن مرّ لبنان بتجارب شبيهة، عند انتهاء ولاية الرئيس الأسبق إميل لحود، حين استلمت حكومة فؤاد السنيورة إدارة شؤون البلاد لأشهر، وكذلك عند انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان، حيث بقيت السلطة التنفيذية بيد حكومة تمام سلام لمدة تجاوزت السنتين، إلى حين انتخاب الرئيس ميشال عون نفسه. لكن، ماذا لو كانت الحكومة مستقيلة قبل حصول الشغور الرئاسي؟ هل يمكن لحكومة تصريف أعمال أن تتولى شؤون البلاد؟.

على هذا السؤال-اللغز، تتباين الآراء، ففيما يذهب بعض الخبراء القانونيون إلى اعتبار أنّ النص الدستوري واضح، وقد أناط صلاحيات الرئاسة بالحكومة مجتمعة، وهو ما يسري بطبيعة الحال على حكومة تصريف الأعمال، "يجتهد" آخرون، ليدحضوا هذه النظرية، باعتبار أنّ الحكومة المستقيلة تصرّف الأعمال على نطاق ضيّق، وهي لا تجتمع حتى في الظروف الطارئة والاستثنائية، فكيف يُتوقَّع منها أن "تحتكر" السلطات في هذه الحالة؟.

يعتقد كثيرون أنّ هذا ما قصده الرئيس ميشال عون تحديدًا بهذه النقطة، هو الذي عانى الأمرّين مع حكومة تصريف الأعمال السابقة، التي رفض رئيسها حسان دياب التجاوب مع كلّ الدعوات إلى الاجتماع، رغم الظروف "الكارثيّة" التي شهدتها البلاد، وهو بالتالي ليس "مستعدًا" لمنحها كل الصلاحيات، علمًا أنّ علامات استفهام أخرى تطرَح، فمن الذي يوقّع على مراسيم تأليف الحكومة الجديدة؟ وألا يُعتبَر مثل هذا الوضع "شاذًا" في الأساس؟.

لكن، أبعد من الحكم على "براءة" هذه الأسئلة، ثمّة من يتحدّث عن "خشية حقيقية" من أن "يتسلّل" الفريق الرئاسي من خلف هذه "الثغرة" لتحويل التمديد للرئيس عون بمثابة "أمر واقع"، علمًا أنّ سيناريو "الفراغ" في هذه الحال يمكن أن يصبح "في متناول اليد"، خصوصًا أنّ الحكومة الحالية تصبح مستقيلة حكمًا بمجرد إنجاز الانتخابات النيابية، وأيّ حكومة جديدة لا يمكن أن تُشكّل من دون توقيع رئيس الجمهورية على مراسيمها.

بهذا المنطق، يمكن توقع "تعطيل" أي تشكيل لحكومة جديدة بعد الانتخابات النيابية، بانتظار "نضوج" الاستحقاق الرئاسي، وحتى لو افترضنا "حسن النوايا"، ثمّة من يقول إنّ احتمال تشكيل الحكومة "ضئيل جدًا" في الوقت الضيّق الفاصل بين الانتخابات النيابية والرئاسية، ما يعني أنّ البلاد ستكون أمام "معضلة" يمكن أن تشكّل "سابقة" في العمل السياسي، قد يترتّب عليها الكثير في الواقع السياسي العام.

لعلّ مجرّد التفكير بمثل هذا "السيناريو" يحيل المراقب إلى "فوضى" غير منظورة، لكنّ معطيات كثيرة تدفع إلى الاعتقاد بأنّ احتماليّته قد تكون عالية جدًا، لكنّها احتمالية تبقى مرهونة بما يمكن أن يطرأ من اليوم وحتى الانتخابات النيابية، خصوصًا أنّ "المراوحة" الحالية، إذا ما استمرّت على وتيرتها "الدرامية"، قد لا تبقي بلدًا، يتيح التمديد لهذا الرئيس أو انتخاب ذاك، وهنا الطامة الكبرى!.