من المعروف ان اللجوء الى الحلول الانتخابية هو الدواء الشافي لكل المشاكل التي تعترض الناس في اي دولة، او حين تصل الامور الى حائط مسدود بين السلطة والشعب. ولكن، في لبنان لا يختلف الوضع عن الدول العربيّة الاخرى، ولو ان التعدديّة الطائفيّة فيه تبقى ميزة لا تملكها الدول العربية الباقية، الا ان النتيجة نفسها للاسف، وهي ان الانتخابات تتحوّل من حلّ الى مشكلة اكبر.

لم تبدأ الانتخابات النيابية بعد، ولم تحدّد بشكل نهائي مواعيد اجرائها، وها ان الخطابات السياسية لرؤساء الاحزاب والتيارات السياسية قد وصلت الى اعلى سقف ممكن، وما على المشكّك في هذا القول سوى ان يقرأ التصريحات والمواقف الاخيرة لكل من الامين العام لحزب الله، رئيس التيار الوطني الحر، رئيس حزب القوات اللبنانية، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي...

الطامة الكبرى ليست في الحديث الصادر عن هؤلاء وغيرهم طبعاً، بل عن الغطاء الخارجي المؤمّن لهذه الانتخابات، حيث اسقط الخارج كل الامور الاخرى والشؤون القادرة على وضع البلاد على سكّة الانقاذ والاصلاح والنهوض، وبات مطلبه الوحيد اجراء الانتخابات النيابية.

ولو ان هذه الانتخابات قادرة على انتاج حيثيّة جديدة باستطاعتها قلب الامور رأساً على عقب في هذا البلد من الناحية السياسية، وفق ما يجب ان يكون عليه منطق الانتخابات بشكل عام، لكان الخارج يقدّم خدمة كبرى واساسيّة للبنان، ولكن الجميع يعلم بالسرّ والعلن، انّ الانتخابات لن تغيّر شيئاً في المسار اللبناني، مع الاشادة باقبال المنتشرين على الدخول في هذه المعركة (نحو 250 الف مغتربا). ولكن... في مراجعة بسيطة لمواقف المسؤولين والزعماء اللبنانيين، نجد ان غالبية هؤلاء المنتشرين ينتمون بشكل رسمي او غير رسمي (مؤيدون او مناصرون) للاحزاب والتيارات السياسية، ويتباهى كل منهم بأنّه استطاع جذب اكبر عدد ممكن من المسجّلين في دول الاغتراب حيث باتوا "بالجيبة". مخطئ جداً من يعتقد ان الدول الكبرى ودول العالم غير مدركة لهذا الواقع، وانها ساذجة الى درجة التصديق انّ الانتخابات ستزعزع اساس الركيزة السياسية والطائفية والمذهبية التي تشرّبها اللبنانيون بزجاجة الرضاعة الخارجية (الغربية والعربية على حد سواء، مهما حاول الجميع التبرؤ من هذا الامر).

من يسمع المواقف الاخيرة للمسؤولين والشخصيات السياسية والحزبية اللبنانية، يعتقد نفسه انه في بلد لا يعاني من اي نوع من الازمات، وان المعارك لكسب الاصوات وبالتالي توسيع النفوذ السياسي، هي الوحيدة التي تشغل بال اللبنانيين، فلا حاجة الى التدخل الطارئ لمعالجة الاوضاع الصحية والاجتماعية والمعيشية والاقتصادية والمالية والقضائية والمصرفية... لانها كلها قابلة للانتظار الآن، ولو وصل الدولار الى 50 الف ليرة او اكثر، ولو بات الحد الادنى للمعيشة الكريمة يفوق الـ15 مليون ليرة في الشهر الواحد... وعلى الرغم من كل ذلك، يتبجّح هؤلاء بأنّهم اصحاب "الانجازات" ويعدّدونها وكأنّهم "جحا" يصدّقون الكذبة التي اطلقوها، وما يحزّ في النفس انهم قادرون على اقناع شريحة كبيرة من الناس بأنّهم على حق، وبأنه من دونهم، يضمحلّ لبنان ويختفي من الوجود.

لبنان، والدول العربية طبعاً، يعكسان المفهوم العام للانتخابات، بحيث تصبح "امّ المشاكل" بدل ان تكون الحلّ الناجع لكل الصعوبات، لذلك تتصاعد اصوات الشريحة الصغيرة من غير الحزبيين والمسيّسين للمطالبة بتأمين حياة كريمة لها خارج لبنان، ليس بسبب الوضع الحالي الصعب، لأنّ كل دول في العالم مرّت وستمرّ حتماً بأوضاع صعبة وحرجة، ولكن طريقة التعامل معها تختلف بين بلد وآخر، وقد اثبتت الوقائع التاريخية ان لبنان غير قادر على التغلب على مثل هذه الصعوبات، بل يعمد الى "تحييدها" والتغاضي عنها بموافقة خارجية تامة، ترضي مصالح الدول وخططها الموضوعة للمنطقة بكاملها، فيعيش باستقرار لسنوات قليلة قبل ان تعود المشاكل وتتسيّد الساحة ونعود الى مستنقع الاوساخ نفسه.