ما أن ندخل شهر كانون الأول حتى تطل علينا مجموعة من أعياد القدّيسين، ونتوّجها بعيد الميلاد المجيد.

نستهلّ هذا الشهر بذكر مجموعة من أنبياء العهد القديم، أمثال ناحوم، حبقوق وصفنيا. ثم يأتي عيد القدّيسة بربارة مع القدّيس يوحنّا الدمشقي في الرابع منه، لنعود ونعيّد للقدّيس سابا والقدّيس نيقولاوس العجائبي في الخامس والسادس من الجاري. ويأتي في التاسع من هذا الشهر التعييد لحبل القدّيسة حنة بوالدة الإله، لنصل في الثاني عشر إلى التعييد بالقدّيس إسبيريدون العجائبي. ويأتي في السادس عشر والسابع عشر، تذكار النبي حجّي وتذكار النبي دانيال والفتية الثلاثة، ليطل بعدها عيد القدّيس إغناطيوس الإنطاكي المتوشّح بالله في اليوم التاسع عشر. ولا تتوقف سبحة الأعياد بعيد الميلاد المجيد، بل توًا نحتفل بعيد جامع لوالدة الإله في اليوم التالي للعيد، ومن بعده نقيم تذكار القدّيس استفانوس أوّل الشّهداء ورئيس الشمامسة. أمّا الأحد الذي يلي عيد الميلاد فنعيّد للقديس يوسف خطيب والدة الإله، لنتوّج هذه الأعياد في التاسع والعشرين من شهر كانون الأول بتذكار الأطفال الأربعة عشر ألفًا الذين قتلهم هيرودس.

عجقة القدّيسين هذه، لم أشأ تعدادها بغية الإستعراض، فالروزنامة الكنسيّة مليئة بأعياد القدّيسين، وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدلّ على أنّنا مدعوون للقداسة كما هو مكتوبٌ: "كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ" (1 بطرس 1: 16). هذا مسعى ومسيرة كلّ إنسان نزل جرن المعمودية وخُتم بنعمة الروح القدس.

سألت مرة صديقًا عارفًا وليس جاهلًا، إن كان يذكر إسم والد جدّه، فجاء جوابه سلبًا، في حين عدّد لي أسماء قدّيسين من العهد القديم إلى الجديد، وهذا دليلٌ ساطع على أنّ القدّيسين هم في وجداننا وفي ذاكرتنا لأنّهم قديسون وأسلافُنا في الإيمان.

نقرأ قول الرّب: "لاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ"(متى 5: 15). فلكي نسلك في طريق القداسة، يطالبنا الرب بأن نكون قدوة للآخرين في الأعمال الصالحة، فيروا المسيح فينا، وعمل روحه القدّوس، فيمجّدوا الله وينجذبوا للحياة معه، ولا يكون غرضنا من الأعمال الصالحة الكبرياء ومديح الناس ومجد أنفسنا، بل نسلك بالبر من أجل الله كقدوة للآخرين، فنجذب القلوب لمحبة الله. بهذا يعرفونكم أنكم تلاميذي.

القداسة تبدأ بالصمت والتسامح وإحتمال المشقّات والتواضع مع العطاء المغبوط. "فَاشْتَرِكْ أَنْتَ فِي احْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ كَجُنْدِيٍّ صَالِحٍ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ"(2 تيموثاوس 2: 3). القداسة تبدأ بقرار التوبة ببساطة، وعندها يفتح الرب أبواب الملكوت للتائبين.

كلّ نفس تائقة إلى القداسة عليها أن تدخل في حوار سرّي مع الله، على غرار ما فعله نيقوديمس، حين سمع من الرب يسوع عن أهميّة الولادة الجديدة بالماء والروح. هذا اللقاء الفريد بين شخصية فرّيسية ممتازة وبين شخص السيد المسيح ينبوع روحي حي يفيض على كلّ نفس جادة في خلاصها.

مسيرة القداسة تبدأ بتفعيل كل واحد منّا لمعموديته. بنظافة الجسد وطهارة النفس والقلوب المتخشّعة. فإذا استعرضنا أعياد القدّيسين في شهر كانون الأول، فلكي نتعلّم من فضائلهم ونقتدي ببطولاتهم. فمن القديسة بربارة الثبات في الإيمان، ومن الدمشقي الجهاد في سبيل الحفاظ على الإيمان القويم، ومن نيقولاوس تطبيق الإيمان بالأفعال، ومن اسبيريدون المجاهرة بكلمة الحق في وجه المبتدعين، ومن إغناطيوس الإنطاكي الامتلاء من نار الروح القدس. أما القدّيس يوسف فعّلمنا أن نحفظ الإله إذا كنا أبرارًا، والقدّيس استفانوس الإستشهاد في سبيل الإله كطريق للقداسة.

إذًا، ليس من المهم بمكان أن نعيّد للقدّيسين، إنما الأهم أن نستلهم ممّا فعلوه في حياتهم وسيرتهم لكي يكونوا مسكنًا للإله. فموضوع القداسة خط أحمر في إيماننا وعقيدتنا، ولا يستطيع أحد أن يغيّر من استقامة رأينا في طلب شفاعة هؤلاء لدى الله. فنحن قوم نعبد الله ونكرّم القدّيسين وفي طليعتهم العذراء مريم. نحن قومٌ فهمنا ما قاله بطرس الرسول: "كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ". لذلك علينا أن نعي أن شفاعة القدّيسين لا تلغي مكانة الله وتقديم العبادة له، فهذا التباس علينا أن ننتبه له حتى لا نفقد بوصلة إيماننا.

رجاؤنا في هذه المسيرة نحو ميلاد الرب يسوع، أن يزداد سعيُنا للقداسة، وهذا لا يكون إلا بتفعيل معموديتنا وعيش الكتاب بكل ما للكلمة من معنى، عندها نفهم ما قصد به القديس إيريناوس حين قال: "صار الله إنسانًا لكي يصير الانسانُ إلهًا".