يَجمَعُ يومُ ٤ كانون الأوَّل، عيدَ قِدّيسَين عظيمَين: بربارة (٢٧٣-٣٠٦م) ويُوحَنَّا الدِّمَشقِي (٦٧٥-٧٤٩م).

الأُولى مَعرُوفَةٌ شَعبِيًّا بِشَكلٍ كَبيرٍ، والثَّاني يَترَبَّعُ على مَقامٍ لاهُوتِيٍّ عَالٍ ومُمَيَّز. وفي بِلادِنا مَثلًا، المَعهد اللاهُوتِيّ في البَلَمَند على اسمِه.

مَن يَغُوصُ في سِيرَةِ حَياةِ هَذَينِ القِدِّيسَين يَكتَشِفُ مِحوَرًا جَوهَريًّا يَجمَعُهُما، هذا مِن جِهَةٍ، ويَربِطُهُما بِالرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ مِن جِهَةٍ ثَانِية، وهُوَ الوَجهُ الإلَهيّ.

القِدِّيسةُ بَربَارَةُ تَنكَّرَت وخَبَّأتْ وَجهَهَا الطَّاهِرَ لِتَحفَظَهُ لامِعًا وبَرَّاقًا مِنَ الوُجُوهِ الجَاحِدَةِ، ولِيَبقى مُستَنيرًا بِالوَجهِ الإلَهيّ الّذي عَشِقَتْهُ حتَّى الاستِشهَاد. وَالقِدِّيسُ يُوحَنَّا الدِّمَشقيّ دَافَعَ بِشَراسَةٍ عَنِ الأيقُونَةِ والوَجهِ المُتألِّهِ فيها، فَكانَ دِفاعُهُ تَعلِيمًا لِكُلِّ الأجيالِ، وتَسلِيمًا مُقَدَّسًا لإيمانِ الكَنيسَةِ مُنذُ البَدء، وأتى كلامُهُ في لاهُوتِ الأيقُونَةِ ثَمرَةَ كُلِّ مَن سَبقَهُ مِنَ الآبَاءِ القِدّيسِينَ حولَ تَكريمِ الأيقُونَةِ الّذي هُوَ تَرجَمَةٌ للتَّجسُّدِ الإلَهيّ.

وهُناكَ كِتابٌ قَيِّمٌ جِدًّا للأبِ Steven Bigham[1] المُتَخَصِّصِ في الفَنِّ المَسيحيّ، يَحوي الكَثيرَ مِن كِتابَاتِ الآبَاءِ مِن بِداياتِ القَرنِ الرَّابِعِ الميلاديّ إلى القَرنِ العَاشرِ الميلادِي حول أهميّة الأيقونة.

وعَنِ الوَجهِ تَقولُ المَسيحِيَّةُ إنَّ اللهَ، مِن فَيضِ مَحبَّتِهِ لنا، إرتَضى أن يُرِيَنا وَجهَهُ، فتَجسَّدَ وصارَ إنسانًا، لِيُصبِحَ وجهُنا إلَهيًّا، وبهذا نُصبِحُ بِدَورِنا أَيقُوناتٍ حَيَّةً، تَنضَمُّ إلى قافِلَةِ القِدّيسينَ الّتي لا تَنتَهي.

ولنسأل: ما الّذي يُشَوِّهُ وَجهَنا؟ الجَوابُ بَسيطٌ: الوَجهُ الّذي نُخفِيهِ خَلفَ وَجهِنَا الظَّاهِرِ، هُوَ ما يُشَوِّهُ وَجهَنا.

​​​​​​​إجتِماعِيًّا وأخلاقِيًّا يُعتَبَرُ هذا الأمرُ خِداعًا، وفي عِلمِ النَّفسِ هُو ازدِواجِيَّةٌ وبالتّالي مَرَضٌ، أمَّا في اللّاهوتِ، فيُسمَّى سُقُوطًا.

وعلاجُ هذا الأمرِ مُختَلِفٌ في هذه الميادينِ الثَّلاثة؛ ففي الأَوّلِ (أي اجتماعيَّا)، يُعَيَّرُ الإنسانُ ويُهاجَمُ ويُنبَذُ ويُعاقَبُ ويُشهَّرُ بِهِ، وقد تُلازِمُهُ صِفَةُ الخِداعِ إلى مَا بعدَ القَبر. وفي الثَّاني (أي عِندَ عِلمِ النَّفسِ)، يُعالَجُ المَرَضُ، وهذا جَيّدٌ، وقَد يُشفَى الإنسان منه وقد لا يُشفَى.

أمَّا في المَيدانِ الثَّالِثِ (أي في اللاهوت)، يَتَطَلَّبُ الأمرُ التَّخلّيَ الحقيقيّ عَنِ الأهواءِ المَعيبَةِ، بِهَدفِ الوُصولِ إلى عُمقِ الدَّاءِ لاستِئصالِهِ بِقُوَّةِ المَسيح. ويُضافُ إلى ذَلِكَ مُحاسَبَةٌ ذاتِيَّةٌ دَقيقَةٌ وصارِمَةٌ يَوميًّا على هَديِ نُورِ الإنجِيل.

وكثيرًا ما يكون الخِداعُ نتيجةَ نقصٍ وانحرافٍ وسوءِ تربيةٍ في مسلكيّةِ الحياة. والخداعُ متنوّعٌ وفي ميادين شتّى، ولكن أيًّا يكن، هو أمرٌ مشينٌ وسيءٌ للغاية، لأنّه كَذِب والكذّاب ممقوتٌ عندَ الله: "كَرَاهَةُ يَهْوَه شَفَتَا كَذِبٍ، أَمَّا ٱلْعَامِلُونَ بِٱلصِّدْقِ فَرِضَاهُ"(سفر الأمثال ٢٢:١٢). لذا الإنسان المريض، وكلّنا مرضى، بحاجة لشفاء "الذِّهن".

و"الذِّهنُ أي النوس[2]" في لاهوتَنا الشَّرقِي هُوَ لِقاءُ العَقلِ بِالقَلب، فإن استَنَارَ الذِّهنُ تَألَّهَ الإنسَان، إذ يَكونُ بِذَلِكَ قدِ اتَّحَدَ بِاللهِ فِكرًا وقَلبًا، قَولاً وفِعلاً، شُعورًا وتَفاعُلًا، فيَكتَمِلُ عِندَهُ الوَعيُ والحِسُّ ووُضوحُ الرُّؤيا، ويُصبِحُ هذا الإنسانُ المُتألِّهُ مَنارةً وشَجرةً مُثمِرَة.

ويَعمَدُ اللّاهوتُ الشَّرقِيُّ مِن خِلالِ تَنقِيةِ "الذِّهنِ" واستِنارَتِهِ، إلى اكتِسابِ الهُدوئِيَّةِ Hesychasme، بِمُمَارَسَةِ الصَّلاةِ القَلبِيَّةِ[3]غَيرِ المُنقَطِعَة، لكي يُصبِحَ الإنسانُ لاهِجًا بِاللهِ، حتّى وهُوَ نائِمٌ، إذ يَبقَى ذِهنُهُ مُستَيقِظًا يُسَبِّحُ الرَّبَّ عِشقَهُ الوَحِيد.

​​​​​​​بِالعَودَةِ إلى الخِداعِ، يَلجَأُ السَّاقِطُونَ فيهِ، غالِبًا، إلى ما يُعرَفُ بِـ "فَنِّ الإقنَاع L’art de la persuasion"، وهَذا فَنٌّ قَديمٌ جِدًّا ارتَبَطَ ارتِباطًا وَثِيقًا بِفَنِّ البَلاغَة. وقد حَذَّرَ كِبارُ الفَلاِسَفِة مِنِ استِعمالِهِ لِغاياتٍ تُعاكِسُ الحَقيقَةَ والمَعرِفَة. فَنَجِدُ مَثلًا عند Platon (٤٢٨-٣٤٧ ق. م.) سعيًّا دائمًا لإظهَارِ الحَقيقَة.

وتَلفِتُنا قَناعَةُ Isocrates (٤٣٦-٣٣٨ ق.م.) بِالسَّعي الدَّؤوبِ لإيجَادِ أُناسٍ مَسؤولِينَ يَتعاطَونَ السِّياسَةَ والقَضاءَ وكُلَّ ما يَتعلَّقُ بِالشَّأنِ العَامّ، فيَكونُ الطَّابَعُ Ethos عِندَهُم مُطابِقًا لأفعالِهِم Logos، أي أن يَكُونُوا أُناسًا حَقيقِيّينَ Authentique، وكلامُهُم مُتوافِقًا مَعَ أفعالِهِم.

كُلُّ هذا لا يَتِمُّ ما لم تَتَطَهَّرِ الأهواءُ Pathos، الّتي تَضُمُّ المَشاعِرَ والأَحاسِيسَ والرَّغبَاتِ وكُلَّ ما يَدور في فَلَكِها كُلِّها. لكِنَّ الطَّامَةَ الكُبرى عِندَمَا تَنحَرِفُ الثَّوابِتُ عن مَعانِيهَا الحَقيقِيَّةِ والأَساسِيَّةِ، لتأخُذَ مَجرىً مُغايرًا تَمامًا ومُعاكِسًا، ومُهَدِّمًا للشَّخصِ نَفسِه وللآخَرِين، فيُصبِحُ عِندَها المُخادِعُ جَلّادًا للآخَرينَ وجَلّادًا لِذاتِهِ في آنٍ واحِدٍ.

وإن كان Aristotle (٣٨٤-٣٢٢ ق.م.) قد حَدَّدَ، في المَاضي، طُرُقًا ثلاثَ فَنيّةً للإقنَاعِ Ethos وPathos وLogos، فلِكَي يَتعرَّفَ النَّاسُ على الحقيقَةِ ولَيسَ على عَكسِها، ولِكَي يَكونَ حُكمُهُم على الأُمورِ صَحيحًا وليسَ مُنحَرِفًا.

ولكن لِلأَسَفِ، كمَا قَالَ Gorgias[4] (٤٨٣-٣٧٥ ق.م.) إنَّ الخَطيبَ البارِعَ المُخادِعَ قادِرٌ على قِيادَةِ النَّاسِ مِن خِلالِ اللُّجوءِ إلى ما يُسمَّى الجَاذِبِيَّةَ العَاطِفيَّة فيَتَعاطَفونَ مَعَهُ، فَيَكونُ الإقناعُ، والحالُ هذه، عَاطِفِيًّا Persuasion émotionnelle وليسَ عَقلانِيًّا Persuasion rationnelle، ويَصِفُهُ Gorgias بالمُرعِبِ والخَطيرِ والمُخَدِّرِ اللّعينِ للنُّفُوس. لذا نجد كَثيرًا ما يَستَغِلُّ المُخادِعُونَ عَواطِفَ النَّاسِ لِمَصلَحَتِهمِ الشَّخصِيَّةِ، ويُحوِّلُونَهم عَبِيدًا لِمَآرِبِهم، وخُدَّامًا لِنَزَواتِهم.

وإذا كَانَ Platon قد حَذَّرَ مِن خَطَرِ التَّلاعُبِ بِالعَواطِفِ لِأَهدَافٍ ظَلامِيَّة، وشَدَّدَ على أنَّ كُلَّ إقنَاعٍ يَجِبُ أن يَكُونَ للصَّلاحِ والحَقِيقَةِ، وإذا كانَتِ السَّنسكريتِيَّةُ[5] (حوالي ١٥٠٠ ق.م.) قد لَخَّصَتْ هذا الأَمرَ بِمَثَلٍ رائِعٍ يَقولُ: "الحَقيقَةُ ذاتُ لَونٍ واحِدٍ فَقط، بَينَما الخِداعُ لَهُ وُجوهٌ عَديدَة"، فَكم بِالأحرى نَحنُ المَسيحيّينَ، الّذينَ أُعطينا مِلءَ المَعرِفَةِ والحَقِّ بِنُورِ الإنجيلِ وصَاحِبه يَسوعَ المَسيح! فَلنَتَذَكَّرْ دائِمًا القَولَ المَأثورَ "الغِشُّ اختِيارٌ ولَيسَ خَطأً، والوَلاءُ والصِّدقُ مَسؤولِيَّةٌ وليسا اختِيارًا".

خِتامًا ودائمًا مع "الوَجه"، ألَم يَكُن وَجهُ النَّبيِّ مُوسى المُستَنيرُ وهُوَ نَازِلٌ مِنَ الجَبَلِ، ثَمرَةَ لِقائِهِ بِالرَّب؟ والأَمرُ ذاتُهُ بِالنِّسبَةِ للقِدّيسِ "سيرافيم ساروفسكي (١٧٥٩-١٨٣٣م)، الذي أَضاءَ وَجهُهُ في وَضحِ النَّهارِ أكثَرَ مِنَ الشَّمس، نَتيجَةَ امتِلائِهِ مِنَ الرُّوحِ القُدُس؟.

وفي إعلانِ سِمعَانَ الشَّيخِ، حَامِلًا الطِّفلَ يَسوعَ على ذِراعَيهِ، ذَكَرَ كَلِمَةَ "وَجه" بِأروعِ مَعانِيها، إذ قَالَ: "لإنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ." (لوقا ٣٠:٢-٣١).

نَعم "وَجهُ الشُّعُوب"، فإنْ عَايَنَّا الوَجهَ الإلَهِيَّ تُصبِحُ وُجوهُنا، حَتمًا، إلهِيَّة.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] Les images chrétiennes : Textes historiques sur les images chrétiennes de Constantin le Grand jusqu'à la période posticonoclaste (313-900) – Père et Dr Steven Bigham - prêtre orthodoxe au Québec. Art chrétien.

[2] الذِّهنُ في اللّاهُوتِ الشرقي يُسَمَّى "النُّوس"، وهِيَ كَلِمَةٌ يُونانِيَّةٌ وَرَدَت قَدِيمًا عِندَ الفَلاسِفَةِ، وأَعطاها اللّاهُوتُ بُعدَها الإلَهيّ. في الأساس، مَعناها قُدرَةُ الإنسانِ على التَّمييزِ والإدراكِ لِما هُوَ حَقٌّ وصَحيح. لذا نَجِدُها في اللُّغتَينِ الفَرنسِيَّةِ والإنكلِيزيَّةِ Intellect، وذَلِكَ بِحَسَبِ تَرجَمَتِها مِنَ اللُّغَةِ اللّاتينِيَّة.

[3] صلاة الرب يسوع: "يا ربّي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ".

[4] Gorgias: Encomium of Helen.

[5] Sanskrit: The primary sacred language of Hinduism.